الخميس، 31 يوليو 2014

الانتصار لزعيم طائفة الأبرار (7)

في

|مسألة سهو النّبي (ص) المُختار|

الرّد على الشّبة التي أثارها (الغزي) و(فضل الله) و(الحيدري) وبعض (أهل السنة)

حول رأي المحقق السيد الخوئي (قده) في مسألة سهو النّبي (ص)

(مع قراءة نقديّة ومناقشات علميّة لأبرز الرّدود)

بقلم: الشّيخ جابر جوير

~ الحلقة السّابعة ~  

 *****************************


المطلب الثّاني: مناقشة تفاصيل مُشْكِلة  ذكرها السّيد الحيدري

    تقدّم كلام السّيد الحيدري بِطولِه فراجعه في محلِّه[1]، وتوفّر كلامه على عدّة مواضع في غاية الإشكال، وتُمكن المُناقشة في عدّة أمور: 

     الأمر الأوّل: أنّ الإشكال الذي قدّره لا معنى له أصلاً! ؛ إذْ لا معنى لقولنا : (هذا الرجل كان في القديم ما يلتفت)!؛ فلا توجد ثمّة علاقة منطقيّة بين كونه مِن القدُماء وعدم الالتفات.

      الأمر الثّاني: على أنّ الإشكال في نفسه لا يخلو من الإجمال، بل هو في غاية الإجمال؛ إذْ لم تُبَيَّن جهة الالتفات وعدمه، فلاحظ.


     وبذلك: يتّضح أنّ ما ذكره ليس مِن المنهج العِلمي في شيء!، ويملؤه الارتباك.

     الأمر الثّالث: أنّه ذكر كُلاًّ مِن المُحقّق السّيد الخوئي (قده) وتلميذه المُحقق الميرزا جواد التّبريزي (قده) في سياق الجواب عن الإشكال المُتقدّم، ولا معنى لذلك أصلاً؛ إذْ المفروض أنّه ذكرهما بداعي النّقض، بحيث جعلهما نموذجَيْن مِن المُتأخّرين مِمّن تورّط في نسبة السّهو إلى النّبي (ص)، والحال: أنّ ما ذكره لا يُثبت مقصوده! ، فإنّه اعترف بأنّهما (قدهما) لم يفيدا شيئاً في المقام لا على سبيل الإثبات ولا على سبيل النّفي، بل ونقل مِن كلماتهما (قدهما) ما يفيد النّفي!

       فيتحصّل مِن ذلك: أنّ ما ذكره أقرب شيء إلى العبث مِن البحث العِلمي المحكوم بضوابطه وأدواته.

      الأمر الرّابع: أنّه استفاد مِن عبارة المُحقق السّيد الخوئي (قده) : عدم وجود دليل يقيني على امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة، وهذا مُبتني على انعقاد مفهوم الحصر الذي بحثناه فيما تقدَّم بما لا مزيد عليه.

     الأمر الخامس: أنّه أومأ إلى عدم عِلْمه بتأريخ المتقدّم والمتأخّر مِن موارد النّفي، ومورد (الاستفتاء).

     وفيه: أنّ تأريخ كلّ منهما لا يخلو حاله مِن أحد أمرين:

     الأوّل: له مدخليّة فيما نحن فيه.
     الثّاني: ليس له مدخليّة فيما نحن فيه.

     والظّاهر أنّ مُختاره هو الأوّل، وإلاّ ما ذكره يعدُّ لَغْواً، لا سيّما وأنّه دعا إلى بحث الموضوع، ومع تصوّر عدم المدخليّة لا يكون ما طَلَبَه إلاّ عبثاً.

     فإنْ تقرّر ذلك: فإنّ عدم بحثه في التّأريخ قصور كبير يعتري بحثه؛ لأنّ كونه ذا مدخليّة معناه: مؤثّريته في نتيجة البحث، وقيمة الجواب الذي أبداه مُقابل السّؤال أو الإشكال المُقدّر، خصوصاً أنّه مِن السّهل جداً معرفة تأريخ الجميع بمُراجعة نفس هذه الكُتب التي نقل عنها.

     على أنّ التّحقيق: أنّ العلم بالتّأريخ لا مدخليّة له فيما نحن فيه؛ فما ذكره لا يُجدي في شيء، ولا ثمرة فيه، وبيان ذلك:
     أنّ المورد ليس مِن قبيل تعارض المُتناقِضَيْن؛ أي: النّفي والإثبات، وإّنما هو مِن قبيل التّعارض بين النّفي والسّكوت، وفرق شاسع بين الصّورتَيْن.

      توضيحه: أنّ في الصّورة الأولى يُقدّم ذو التّأريخ المُتأخّر بإسقاط المُتأخّر تأريخاً -مع عدم الالتزام بالتّناقض أو التّهافت والوقوف عنده- ، وفي الثّانية: يتعيّن أحد طَرَفَي المسكوت عنه على كل حال، سواء كان التّأريخ مُتقدّماً أو متأخّراً.

      وعليه: لا توجد ثمّة مدخليّة للبحث التّأريخي فيما نحن فيه؛ فإنّ البحث معقود للجواب عن الإشكال المُقدّر، وبضمّ المنقول عنهما (قدهما) في نفي السّهو يرتفع موضوع الإشكال مِن رأس.

     الأمر السّادس: فسّر (القدر المُتيقّن) بالثّابت.

      وفيه: أنّ القدر المُتيقّن صِفة تعرض على حصّة خاصّة من (الثّابت)، وإنْ شئت فقل: صفة لِفَرْد مِن أفراد الثّبوت، وهو المقطوع ثبوته، فالنّسبة بينهما نسبة العُموم والخُصوص المُطلق، وبه يتّضح أنّ التّعبير عنه بالثّابت في غير محلّه.

     وعليه: نفي القدر المُتيقّن لا يلزم منه نفي الثّبوت؛ إذْ قد يكون الثّبوت مُتحققاً على سبيل الظّن الخاص مثلاً.

     والثّمرة في ذلك: أنّه في فرض حمل معنى القدر المُتيقّن على (الثّابت)، فإنّ مدلول عبارة المُحقّق السّيد الخوئي (قده) مفهوماً سيكون: نفي الثّبوت عمّا هو مِن سِنْخ الموضوعات الخارجيّة؛ ولذا حتّى المُستشكِل عبّر بقوله: (الثّابت فقط).

      أضف إلى ذلك: أنّ هذا المعنى لا تستقيم معه سائر عبارات المُستشكِل؛ لأنّه قال: (أنا ما أريد أقول هنا يُثْبت لا سامح الله، أبداً أبداً، ولكنّه أيضاً نفى أو لم ينف؟ ها؟ نفى السّهو في الموضوعات أو لم ينف؟ لم ينف هنا أبداً أبداً)، لأنّ عدم ثُبوت السّهو الممنوع في الموضوعات الخارجيّة يُساوق إثبات السّهو فيها بلا إشكال، ونفي الثّبوت معناه نفيه بتمام أفراده، فتدبّر.

      فيتحصّل مِن جميع ما مر: أنّ ما ذكره مضطرب جداً، ومشحون بالارتباك، ولا يرجع إلى معنى محصّل، وأنّ النّقض على الإشكال المُقدّر ببعض المتأخّرين وهما: المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، وتمليذه المُحقق الميرزا التّبريزي (قده)؛ نقض في غير محلّه، على أنّ نفس الإشكال المُقدّر الذي جعله المُسْتشكِل مُنطَلَقاً لإثارة البحث لا يخلو مِن خفاء!



للبحث تتمّة ،،،




[1]  انظره في موضعه مِن هذا البحث؛ في: (الحلقة الثّانية) : (المبحث الأوّل) : (المطلب الأوّل) : (الشّخصيّة الرّابعة).

http://jaberjuwair.blogspot.com/2014/07/2.html 


الأحد، 27 يوليو 2014

الانتصار لزعيم طائفة الأبرار (6)

في

|مسألة سهو النّبي (ص) المُختار|

الرّد على الشّبة التي أثارها (الغزي) و(فضل الله) و(الحيدري) وبعض (أهل السنة)

حول رأي المحقق السيد الخوئي (قده) في مسألة سهو النّبي (ص)

(مع قراءة نقديّة ومناقشات علميّة لأبرز الرّدود)

بقلم: الشّيخ جابر جوير

~ الحلقة السّادسة ~  

 *****************************






المبحث الثّالث: مناقشة تفاصيل أخرى مقرونة بالإشكال

المطلب الأوّل: مناقشة تفاصيل ذكرها الغِزِّي
(الجواب عن إشكالَيْن آخرَيْن أثارهما الغِزِّي مِمّا يتّصل بالشّبهة)

     ويقع الكلام في أمرين:

    الأمر الأوّل: عرض الإشكالَيْن

     تقدّم -في بحثنا هذا- نقل كلمات للغِزِّي[1] تتضمّن إشكالَيْن يتلخّصان بأنّ: 

1-   (الإشكال الأوّل: ) ما أفاده المُحقّق السّيد الخوئي (قده) قد اعتراه الضّعف والرّكة؛ مِمّا لا تتّضح معه عقيدته (قده).
2-   (الإشكال الثّاني: ) أنّه (قده) عَنْوَن نفي السّهو عن النّبي (ص) بالغُلو، وهذا بمثابة -على حدِّ زعم المُستشكِل- البداية لعقيدته (قده) التي صرّح بها في أُخريات عمره، وهي الاعتقاد بسهو المعصوم (ع) في الموضوعات الخارجيّة.
     ولا بأس بأنْ ننقل كلمات المُستشْكِل بهذا المضمون مرّة أخرى، قال: (وهذا هو (الجُزء الثّاني) مِن (التّنقيح)، وهو يتحدّث عن نجاسة الغُلاة، وعن الغُلو إلى أنْ يصل كلامه إلى ما قاله الشّيخ الصّدوق نقلاً عن شيخه ابن الوليد مِن أنّ أوّل درجات الغُلو هو نفي السّهو عن النّبي (ص)، السّيد الخوئي ماذا يقول؟ : (والغلو بهذا المعنى مما لا محذور فيه بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة)، يقول الغُلو بهذا المعنى، يعني هو يصف القول بعدم سهو النّبي؛ يصفه بالغلو، ولكنّه يقول: مما لا محذور فيه، وهذه هي البداية، البداية لعقيدته التي صرّح بها في أُخريات عمره، فهو هنا يصف نفي السّهو عن النّبي، هو: غلو، ولكن مِمّا لا محذور فيه، بل لا مناص، لا مناص يعني: لا مهرب عن الالتزام به، لكن في الجملة، يعني: هو هنا يشير إلى أنّ الاعتقاد بأنّ النّبي، بأنّ الإمام، بأنّ المعصوم مُنزّه عن السّهو في الجملة، كلام فيه رِكّة، وكلام ضعيف، لا يُنبئ، ولا يُفصح عن عقيدة واضحة).انتهى.
   
     الأمر الثّاني: الجواب عن الإشكالَيْن

     أوّلا: الجواب عن الإشكال الأوّل؛ نسبة الرّكاكة والضّعف لما أفاده المُحقّق السّيد الخوئي (قده).

     أقول: إنِّه قد جازف، وأبعد، ولم يتّضح وجه ما عبّر عنه بالرِّكة والضَّعف، ويُمكن الجواب عمّا ذكره مِن عدّة جهات:

     الجِهة الأولى: أنّ كلامه مُبتني على أنّ قوله (قده) : (والغُلو بهذا المعنى الأخير...) راجع إلى ما نقله (قده) قبل ذلك مِن حِكاية الشّيخ الصّدوق (قده) لدعوى أُستاذه الشّيخ ابن الوليد القُمّي (قده)، وهو وإنْ كان مُحتملاً، بل لعلّه هو الظّاهر؛ إلاّ أنّه يقع في عَرْضِه احتمال آخر، وهو: رجوع كلامه (قده) إلى القِسم الثّالث مِن أقسام الغُلو التي كان المُحقّق السّيد الخوئي (قده) بصدد تنقيح الكلام فيها، وهو الصّحيح، كما سيوافيك.

     وتقريب ذلك: أنّه (قده) في مقام بيان طوائف الغُلاة، ومعاني الغُلوّ الذي هم عليه، ثمّ مُحاكمة طبيعة (الغلّو) الذي يتديّنون به، قال (قده) في مَطْلع بحثه: (الغُلاة على طوائف...) ، ثم ذكر ثلاث طوائف، ختمها بالطّائفة الثّالثة، وهي التي ينحدر منها: مَن يعتقد بعدّة مِن الأمور التي تخلو مِن المحذور الشّرعي، ولذا قال (قده) مُعتقدات هذه الطّائفة: (ومثل هذا الاعتقاد غير مُستتبع للكفر، ولا هو إنكار للضّروري)، ثم جعل عدّ الاعتقاد بهذه الأمور مِن الغُلو في حُكم عدّ الاعتقاد بنفي السّهو عن النّبي (ص) مِن جهة دخولها في عُنوان (الغُلو)، فقال (قده) : (فعَدُّ هذا القِسم مِن أقسام الغُلو نظير ما نُقل عن الصّدوق (قده) عن شيخه ابن الوليد...)، أي إدخال هذا القِسم -الذي هو القِسم الثّالث- للغُلوّ أو الغُلاة في حُكم عدِّ نفي السّهو عن النّبي (ص) غُلّواً، ثم استأنف كلاماً يتّصل بالمعنى الثّالث والأخير للغُلو، ولذا عبّر عنه بـ (والغلو بهذا المعنى الأخير...).

      نعم، رُبما يُخدش هذا التّقريب: بأنّ قوله (قده) : (بهذا المعنى الأخير) ظاهر برجوعه إلى معنى نفي السّهو، وإنْ كان رجوعه إلى ما قبله مُحتمَلاً جِدّاً.

     إلاّ أنّه مدفوع: بما جاء في تقرير آخر للبحث نفسه في كتاب الطّهارة، ونحن ننقل ما جاء في كلا التّقريرَيْن؛ ليتّضح المُراد:

     أوّلاً: ما جاء في التّقرير الأوّل (كتاب: فقه الشّيعة)
     ( نجاسة الغُلاة: لا بدّ أوّلاً مِن تحقيق مقالة الغُلاة والنّظر فيما يعتقدون، ثمّ الحُكم بكفرهم، ونجاستهم، أو عدمه، وهم ينقسمون بحسب معتقدهم، أو ما يُحتمل في اعتقادهم إلى أقسام:...
    الثّالث: من يعتقد بأنّ الأئمّة (عليهم السلام) عباد مكرمون، وهم أشرف المخلوقات على الإطلاق، ولذلك كرّمهم اللّه تعالى، فجعلهم وسائط للفيض، فيسند إليهم أمور التّشريع، والتّكوين على ضرب من الإسناد، كما يسند الإماتة إلى ملك يسند الإماتة إلى ملك الموت والرّزق إلى ميكائيل، والمطر إلى ملك المطر، بل في الكتاب العزيز إسناد الخلق وشفاء المرضى وإحياء الموتى إلى عيسى بن مريم (عليهما السلام) في قوله تعالى: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ)[2]. فالاعتقاد بأنّهم (عليهم السلام) رازقو الخَلْق، ومحيوهم، ومميتوهم بهذا المعنى، أي بمعنى: قدرتهم على ذلك بإقدار مِن الله تعالى بحيث لا يرجع إلى الاعتقاد بربوبيّتهم، ولا بتفويض الأمر إليهم لا محذور فيه، ولا يوجب الكفر، بل هو: مِن الغُلو الحَسَن الّذي لا بدّ من الالتزام به في الجُملة، إذْ لا تنافي بين‌ النّسبتين أي نسبة الخَلْق، والرِّزق، والموت، والحياة إليه تعالى وتقدّس، وإليهم (عليهم السلام) بالمعنى المذكور، أعنى: التّوسيط في الأمر لا الاستقلال؛ فإنّ إثبات شي‌ء مِن أوصاف الباري تعالى لبعض مخلوقاته لا يوجب الخروج عن حدِّ الإسلام بعد الاعتراف بكون الموصوف بتلك الصّفة مِن مخلوقاته تعالى، فإنْ كان هذا معنى الغُلو فليس تجاوزاً عن الحدِّ في حقّ الأنبياء، أو الأئمّة (عليهم السلام) كما قد يُفسّر الغُلو بذلك، فما حُكي عن القُمِّيين مِن الطّعن في بعض الرّجال برميهم بالغُلو بمجرّد ذلك، حتّى أنّه حكى الصّدوق عن شيخه ابن الوليد أنّه قال: أنّ أوّل درجة الغُلو: نفي السّهو عن النّبي (ص) )، لا يمكننا المصير إليه)[3].

     الثّاني: ما جاء في التّقرير الثّاني (كتاب: التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى)، وهو التّقرير الذي نقل عنه المُستشكِل:
     ( الغُلاة على طوائف: ...
    [3][4] ومنهم: مَن لا يعتقد بربوبيّة أمير المؤمنين (ع)، ولا بتفويض الأمور إليه، وإنّما يعتقد أنّه (ع) وغيره مِن الأئمّة الطّاهرين ولاة الأمر، وأنّهم عاملون لله سبحانه، وأنّهم أكرم المخلوقين عنده؛ فينسب إليهم الرّزق والخَلْق ونحوهما، لا بمعنى إسنادها إليهم (ع) حقيقة؛ لأنّه يعتقد أنّ العامل فيها حقيقة هو الله، بل كإسناد الموت إلى مَلَك الموت، والمطر إلى مَلَك المطر، والإحياء إلى عيسى (ع)، كما ورد في الكتاب العزيز: (وأحي الموتى بإذن الله)، وغيره مِمّا هو من إسناد فعل من أفعال الله سبحانه إلى العاملين له بضرب من الإسناد، ومثل هذا الاعتقاد غير مُستتبع للكفر، ولا هو إنكار للضّروري؛ فَعدُّ هذا القِسم من أقسام الغُلّو؛ نظير ما نُقل عن الصّدوق (قده) عن شيخه ابن الوليد : (إنّ نفي السّهو عن النّبي (ص) أوّل درجة الغُلو). والغُلو -بهذا المعنى الأخير- مِمّا لا محذور فيه، بل لا مناص عن الالتزام به في الجُملة)[5].

     أقول: ونتيجة المُقارنة بين التّقريرَيْن: أنّ قوله (قده): (والغُلو بهذا المعنى الأخير...إلخ)، راجع إلى المعنى الثّالث مِن معاني الغُلو التي كان بصدد ذكرها وتحقيق الكلام فيها، لا أنّه راجع إلى (الغُلو) المذكور في كلام الشّيخ الصّدوق (قده)، وهذا الذي قُلناه أوضح مِن أنْ يُبيّن، فلا مجال للتَّنظُّر فيما أفاده في التّقرير الأوّل (كتاب: فقه الشّيعة).

     والمُتحصّل: أنّ الإشكال ابتنى على دعوى غير مُتَّجِهة، وهي: رجوع كلامه (قده) إلى ما يُتصوّر أنّه يخدم الإشكال -لأنّه سيأتي بُطلانه أيضاً- .

     تهافت كلام المُستشكِل:
      والعجيب أنّ للمُستشكِل كلاماً آخر لا يُمكن أنْ يجتمع مع كلامه هنا بوجه مِن الوجوه، حيث يُرجع فيه كلمات المُحقّق السّيد الخوئي (قده) إلى الاحتمال الثّاني الذي رجّحناه، أعني: المعنى الثّالث للغُلو، لا نفي السّهو عن النّبي (ص).
      ونحن ننقله هنا -على طوله- ؛ لكونه مفيداً في النّقض عليه، قال في الحَلقة الأُولى من برنامج (ملف العصمة)، المبثوث على قناة (المودّة) الفضائيّة، بتاريخ: 30-6-2014، في (الدّقيقة : 1:14) وما بعدها، بعد أنْ قرأ مقداراً مِن كتاب التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى : (هذه عقيدتنا بأهل البيت، يريدون أنْ يسموها غُلوّاً فليُسمّوها غُلوّاً، نحنُ لا نتأذى من ذلك أبداً، إذا كان هذا يُسمى غُلوّاً؛ نحن لا نتأذى من تسمية هذه العقيدة بالغلو، يقولون: غُلو، غُلو –أي ليكن غلواً- ، يقولون هذه من عقائد الرافضة، من عقائد الرافضة –أي ليكن من عقائد الرّافضة-، يقولون هذه من عقائد السّبأية، من عقائد السّبأية –أي ليكن من عقائد السّبئية-، بقولون هذا انحراف، هذا انحراف-أي ليكن انحراف-، ماذا تريدون؟ هذا هو نصّ الزيارة الجامعة، وهذه نصوص أهل البيت، وسيأتي بيانها، ستتضح الأمور حينما نتناول كلمات أهل البيت، ونتناول النّصوص بشكل واضح، ونطرح الموضوع بشكل مفصّل، أنا هنا لا أوجّه الكلام هذا للسّيد الخوئي، لأنّ السّيد الخوئي في هذا الكتاب يعتقد بهذا الكلام سيأتي، يقول هذا من الغلو الذي لا مناص من الاعتقاد به، حتى لو هو غلو؛ يجب أنْ نعتقد به، هذا كلامي ليس خلافاً للسّيد الخوئي، السّيد الخوئي سيأتي كلامه، يقول هذا النحو من الغلو مما لا مناص من الاعتقاد به، ومثل هذا الاعتقاد غير مُستتبع للكفر ولا هو إنكار للضروري فعدُّ هذا القسم من أقسام الغلو نظير ما نُقل عن الصدوق قدس سره عن شيخه، نظير ما نقل الصدوق – هذه (ع) يبدو زائدة، خطأ مطبعي- نظير ما نَقَل الصدوق قدس سره عن شيخه ابن الوليد: إنّ نفي السّهو عن النّبي أوّل درجة الغلّو، والغلّو بهذا المعنى الأخير-بهذا المعنى الأخير الذي تقدّم: أنّ الأئمة الطّاهرين ولاة الأمر وأنهم عاملون لله سبحانه وأنهم أكرم المخلوقين عنده، يُنسب إليهم الرّزق والخلق لا على نحو فصل ذلك عن الله، وإنما كنسبة الموت إلى مَلَك الموت، ونسبة المطر إلى ملك المطر ونسبة الإحياء إلى عيسى، (وأحيي الموتى بإذن الله)، كهذه النّسبة، يقول: والغلّو بهذا المعنى الأخير مِمّا لا محذور فيه- ليس في أي حذر، هذا كلام صحيح- بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة- لا مناص يعني لا مهرب، لا بدّ أنْ نلْتزم، لماذا لا مناص؟ لأنّ الرّوايات تقول بذلك، الرّوايات تقول بهذه المعاني، السّيد هنا حينما يقول: لا مناصَ عن الالتزام في  الجملة- لأنّ الرّوايات تقول بذلك، وقبل قليل هو قال هذا الكلام في كتابه مصباح الفقاهة)[6]. انتهى.

     أقول: بذلك عرفت أنّ المُستشكِل استظهر هنا رجوع كلامه (قده) إلى ما ذكرناه، مع أنّه لم يستند في استظهاره إلى ما هو ثابت في تقرير بحثه الآخر (قده) الذي ذكرناه، فهذا كاشِف عن كون الاستظهار المذكور مُستفاد -عِند المُسْتشكِل- مِن حاقِّ عبارات تقرير بحثه (قده) الثّاني (التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى).

     وبذلك: كفى المُستشكِل غيره مؤونة شرح عباراته (قده)؛ ليتبيّن أنّها أبعد ما يكون عن الرّكاكة والضّعف!

     الجِهة الثّانية: بيان معنى قوله (قده) : (الالتزام به في الجملة)، وهو ما خفي على المُستشكِل مِمّا دفعه إلى الخلوص إلى وقوع الرِّكة والضَّعف، فنقول:
     يُمكن بيان معنى كلامه (قده) على التّقديرَيْن، أعني: على تقدير رجوع كلامه (قده) على نحو ما يذهب إليه المُستشكِل، وعلى نحو ما يقتضيه الواقع -بحسب ما بيّناه فيما تقدّم- :

     أوّلاً: على التّقدير الأوّل
     بناءً على ما يذهب إليه المُستشكِل، وهو رجوع كلامه (قده) إلى  (الغُلو) المذكور في كلام الشّيخ الصّدوق (قده)، كما لو سلّمنا بذلك -مع أنّه لا يصح كما عرفت- في فرض عدم وقوفنا على ما جاء في تقريره الآخر (أعني: التّقرير الأوّل؛ كتاب: فقه الشّيعة).

      فإنّه يُقال: أّن ما أفاده (قده) لا مجال لأنْ يكون مُنطَبَقاً لمقولة (الرّكة)، و(الضّعف)؛ ولا يكاد ينقضي العجب من عدِّه كلامه (قده) ركيكاً أو ضعيفاً؛ لأنّه مع فرض الالتزام بهذا الإرجاع فغايته: أنّ نفي السّهو في الموضوعات الخارجيّة ثابت على نحو الموجبة الجزئيّة بعد كون موضوع السّهو في كلام الشّيخ الصدوق هو: الموضوعات الخارجيّة؛ فيتحصّل مِن ذلك: أنّ مُراد المُحقِّق السّيد الخوئي (قده) : تقلّص دائرة الموضوع، بحيث يكون مُتعلَّق نفي السّهو هو بعض الموضوعات الخارجيّة لا كُلّها، وهذا مُتصوّر في نفسه، بل صرّح بإمكانه بعض أعاظم الطّائفة (أنار الله برهانهم).
     قال الشّريف المُرتضى عَلَم الهُدى (قده) (ت: 436 هـ)، في كتابه (التّنزيه) : (أنّ النّبي (ص) إنّما لا يجوز عليه النّسيان فيما يؤدّيه عن الله تعالى، أو في شرعه، أو في أمر يقتضي التّنفير عنه، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه فلا مانع من النّسيان، ألا ترى أنّه إذا نسي، أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتّصل، فنُسب إلى أنّه مغفل، فإنّ ذلك غير ممتنع)[7].

     نعم، المُحقّق السّيد الخوئي (قده) لم يُعيّن سِعَة دائرة الموضوعات الخارجيّة بعد تقليصها، ولكن الأمر سهل؛ لأنّه ليس في مقام استعراض المسألة، واستقصائها بتفاصيلها كما هو واضح، فالمسألة جاءت على سبيل التّنظير والتّمثيل، وهو ظاهر مِن قوله (قده) : (فَعدُّ هذا القِسم من أقسام الغُلّو؛ نظير ما نُقل عن الصّدوق (قده)...إلخ)، ولا معنى على ضوء ذلك للإشكال بأنّ ما أفاده (قده) لا يكشف عن عقيدة واضحة، أو رمي إفادته بالرِّكة والضّعف.

     ثانياً: على التّقدير الثّاني    
     أمّا قوله (قده) في التّقرير الأوّل (كتاب: فقه الشّيعة) : (لا بدّ من الالتزام به في الجُملة)، والثّاني (كتاب: التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى) : (لا مناص عن الالتزام به في الجُملة)؛ فهو مسوق لبيان مقام الوقوع، لا الإمكان، بعد أنْ نقّح كُبراه، وخلص إلى انتفاء أيّ محذور شرعي بالإضافة إليها، وحينئذ: يكون إثباته ونفيه -إثباتاً- دائراً مدار الدّليل المُعتبر؛ وبحسب نَظرِه أنّ الثّابت منها -إثباتاً- على مُقتضى الدّليل بنحو الموجبة الجُزْئيّة، وإنْ كان غير الثّابت مُمكناً في نفسه؛ نظراً لاندراجه في الكُبرى.

     والمُتحصّل: أنّه مع وضوح ما تقدَّم لم أهتدِ إلى موطن الرّكة والضّعف المزعومين! ولا أدري ما هي ضابِطتهما عند المُستشكِل؟!

     توجيه وردّه:

     اللّهم إلاّ أنْ يُقال: أنّ منشأ الرّكة والضّعف هو عدم الإفصاح عن عقيدة واضحة، كما قال المُستشكل: (كلام فيه رِكّة، وكلام ضعيف، لا يُنبئ، ولا يُفصح عن عقيدة واضحة).

     وفيه: أنّ ما ذكره وإنْ كان -رُبما- مُشعراً بالتّعليل إلاّ أنّه لا يرتقي إلى مستوى الظّهور فيه.
     على أنّه إنْ كان مُراده التّعليل؛ فإنّه في غير محلّه؛ لأنّه يُحتمل فيه أيضاً أنْ يكون عدم الافصاح معلولاً للرّكاكة والضّعف، لا علّة لهما، فتنقلب النّسبة عمّا هي عليه في الاحتمال الأوّل.

     وكيفما كان؛ فإنّه بذلك يكون كلامه أَوْلى بالغمز عليه بالرّكة والضّعف، فتدبّر جيّداً.

      ثمّ أنّه لو كان؛ فإنّ عدم الافصاح عن عقيدة واضحة لا يُلازم الرّكة والضّعف في الكلام كما لا يكاد يخفى، فالمُلازمة غير واضحة في نفسها.

     مُضافاً إلى: أنّ عدم الوضوح في تحديد دائرة السّهو راجع إلى أنّه (قده) ليس في مقام البيان مِن هذه الجِهة -كما أشرنا-، وحينئذ: لا معنى للإلزام باستعراض التّفاصيل طلباً للوضوح والإيضاح مع كونها خروجاً عن محلِّ البحث.

      وزُبدة المخض: أنّ ما ذكره صاحب الدّعوى غير تام مِن جميع جِهاته، بل هو في غاية الإشكال.

      تهافت كلمات المُستشكل:
     ونُسجّل هنا تعجّباً آخر مِمّا يصنعه المُستشكل في غير مورد مِن إثاراته، حيث تجده يُعبّر عمّا رماه بـ(الرّكاكة)، و(الضّعف) بما لا ينسجم مع هكذا عناوين!
     قال في كتابه (الشّهادة الثّالثة) : (فانظر إلى كلام هذا العالم المُحقّق وما قاله من أن الذي سمّاه الصدوق وشيخه (ره) ومن قال بقولهم غُلوّاً فإنه مما لا محذور فيه، بل لا مناص عن الإلتزام به، وهو كلام ينمُّ عن تحقيق وتدقيق)[8].

      أقول: لا يخفاك التّهافت بين ما صرّح به هناك، وما صرّح به هنا، فلا أدري كيف يجتمع كون الكلام ركيكاً وضعيفاً، مع كونه ينمّ عن تحقيق وتدقيق ؟!

     ثانياً: الجواب عن الإشكال الثّاني؛ أنّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) عَنْوَنَ نفي السّهو بالغُلو!

     وهذا الإشكال مُركّب مِن شِقّيْن:

     الشِق الأوّل: رفض عَنْوَنة (نفي السّهو) بالغُلو.
     الشِّق الثّاني: كون هذه العَنْونة هي البداية لعقيدته (قده) التي أبرزها في أُخْرَيات حياته.

     مُعالجة الإشكال بشقّيه:
      أقول: تقدّم أنّ عنوان (الغُلو) الذي وقع في كلام المُحقّق السّيد الخوئي (قده) إنّما هو راجع إلى القسِم الثّالث مِن أقسام الغُلو والغُلاة، لا أنّه راجع إلى كلام الشّيخ الصّدوق وشيخه ابن الوليد القُمّي (قدهما)، وبذلك ينتفي الإشكال على طريقة السّالبة بانتفاء الموضوع، إذْ لا يبقى أساس موضوعي للإشكال بشقّيه.

     ومع ذلك قد يُقال: أنّ هذا الإشكال سيّال؛ فيُمكن أنْ يُثار مرّة أخرى على عَنْوَنَتِه (قده) للقِسم الثّالث بالغُلو في الوقت الذي يعتبره ممّا لا محذور فيه، ولا مناص مِن الالتزام به في الجُملة.

     وكيفما كان؛ فنحن نجيب عن الإشكال بفرَضَيْه، أي على: الفَرْض الأوّل، وهو: عَنْوَنَة نفي السّهو عن النّبي (ص) بالغُلو، والثّاني، وهو: اجتماع عنَونة الغُلو لبعض الأمور مع كونها مِمّا لا محذور فيها، بل ولا مناص مِن الالتزام بها في الجملة -على حدِّ تعبير المُحقِّق السّيد الخوئي (قده)- .

     مُعالجة الشِّق الأوّل للإشكال:
     يُمكن أنْ نُعالج الإشكال مِن هذه الجهة بواحِد مِن الوجوه الآتية:

     الجواب الأوّل: أنّ الإشكال مِن جِهة التّسمية ليس بشيء؛ إذْ هو مُنطَلِق مِن اختلاف لفظي محض لا يترتّب عليه أثر يُعتدُّ به في نفسه، وكما قيل قديماً : (لا مُشاحّة في الاصطلاح)، ولا يكاد ينقضي العجب مِن إثارة هكذا إشكال على ما أفاده (قده) أصلاً.
     والتّعاطي مع كلامه (قده) على هذا النّحو ليس مِن العِلميّة بشيء؛ فليس هو اعتراض عِلمي بقدر ما هو اعتراض نفسي؛ نظراً لما تختنزِنه لفظة (الغُلو) مِن إيحاءات نفسيّة، وما تستبطنه مِن إسقاطات ثقافيّة وأديولوجيّة مُعيّنة جرّاء استعمالها في معانٍ مُحدَّدة ضِمن أجواء تأريخيّة خاصّة.
     وإلاّ فإنّ فضاء اللّغة وشأنها وقوالبها اللّفظيّة وآليات الوضع بشقّيه التّعيّني والتّعييني يعلو على هذا الأفق الجامد، ويمنح المُتكلِّم هامشاً مِن الحُرّية المُقنّنة في الممارسة اللُّغويّة.

     وفيما نحن فيه: تصحيح استعمال هذه اللّفظة بمعزل عن جميع تلك الظروف السّلبيّة التي اكتنفتها بمكان مِن الإمكان، وتقريب ذلك:
     أنّ هذه العناوين مِن الأمور الاعتباريّة، والاعتبار بيد المُعْتَبر، وفيه سِعة ومندوحة، فلا ينبغي الإشكال فيما لو فرضنا أنّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) يَعْمَد إلى تقسيم (الغلو) إلى قِسْمين:

    الأوّل: غلوٌ ممدوح.
    الثّاني: غلوٌ مذموم.

    فإنْ فرضنا أنّ ما أفاده (قده) كان بقصد قبول عَنْوَنة الغلّو؛ فهو مِن قبيل الممدوح، ولا يشتمل على محذور شرعي، بل يجب الالتزام به في الجُملة كما أفاد (قده)، وما كان حاله كذلك؛ فهو جُزء مِن الشّريعة الغرّاء غير خارجٍ عنها، ولا هو دخيل عليها.
     وهذا الاحتمال الثّبوتي كفيل برفع الإشكال، على أنّه يُمكن أنْ نُبرهن إثبات ذلك بالتّقريب الآتي:
     أنّه (قده) قال -على ما جاء في تقرير بحثه (كتاب: فقه الشّيعة)- : (فالاعتقاد بأنّهم (عليهم السلام) رازقو الخلق، ومُحيوهم، ومُميتوهم بهذا المعنى؛ أي: بمعنى قُدرَتهم على ذلك بإقدار مِن اللّٰه تعالى، بحيث لا يرجع إلى الاعتقاد بربوبيّتهم، ولا بتفويض الأمر إليهم؛ لامحذور فيه، و لا يوجب الكفر، بل هو: مِن الغُلوِّ الحَسَن الّذي لا بد من الالتزام به في الجُملة ؛ إذ لا تنافي بين‌ النّسبَتَيْن؛ أي: نسبة الخلق، والرّزق، والموت، والحياة إليه (تعالى وتقدّس)، وإليهم (عليهم السلام) بالمعنى المذكور، أعني: التّوسيط في الأمر لا الاستقلال؛ فإنّ إثبات شي‌ء مِن أوصاف الباري تعالى لبعض مخلوقاته؛ لا يوجب الخُروج عن حدِّ الإسلام بعد الاعتراف بكون‌ الموصوف بتلك الصِّفة مِن مخلوقاته تعالى؛ فإنْ كان هذا معنى الغُلو؛ فليس تجاوزاً عن الحدِّ في حقّ الأنبياء، أو الأئمّة (عليهم السلام) كما قد يُفسّر الغُلو بذلك)[9].

     أقول: قوله (قده) : ( بل هو: مِن الغُلوِّ الحَسَن الّذي لا بد من الالتزام به في الجُملة)، ظاهر في تقسيم الغُلو إلى حَسنٍ وغيره، بحيث يكون عنوان الغُلو مَقْسَماً غير معروضٍ لعنوان القبول أو الرّفض، أو أنْ نقول تسامحاً: متساوي النّسبة إلى الذمِّ (الرّفض)، والمدح (القبول) -إنْ صحّ التّعبير-.

     ويؤيّده: قوله (قده): (فإنْ كان هذا معنى الغُلو؛ فليس تجاوزاً عن الحدِّ في حقّ الأنبياء، أو الأئمّة (عليهم السلام) كما قد يُفسّر الغُلو بذلك)، فإنّ دخول (قد) على المُضارع (وهو في المقام مبني للمفعول) يُفيد التّقليل لا التّحقيق على المشهور، فتكون بمعنى (ربما) أو التّشكيك، وهو مُشعر بأنّ تعريف الغُلو -مُطلقاً- بهذا المعنى محلّ نظر عنده (قده)، فتأمّل.

     وكيفما كان؛ فإنّه لو فرضنا عدم تماميّة شيء -مِمّا تقدّم- على دعوى تقسيم المُحقّق السّيد الخوئي (قده) الغُلو إلى القِسْمَيْن المذكورَيْن؛ فإنّه يكفي الاحتمال نفسه في المقام لرفع الإشكال ، فتأمّل.

     الجواب الثّاني: وهو مُستفاد مِن كلامٍ لنفس المُستشكِل ساقه في مقام شرح كلمات المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، وبتوظيفه هنا يُمكن التّفصي عن الإشكال على مسلك المُستشكِل، وإنّما نورده هنا على طريقة الإلزام، فنقول:
     أنّه (قده) في مقام قبول هذا المِقدار حتى في فرض التّسليم بكونه مُعَنْون بعنوان (الغُلّو)، أي أنّه (قده) في مقام التّسليم الجَدَلي.
      قال المُستشكِل: (أنا هنا لا أوجّه الكلام هذا للسّيد الخوئي؛ لأنّ السّيد الخوئي في هذا الكتاب يعتقد بهذا الكلام سيأتي، يقول هذا من الغُلو الذي لا مناص من الاعتقاد به، حتى لو هو غُلو؛ يجب أنْ نعتقد به، هذا كلامي ليس خلافاً للسّيد الخوئي، السّيد الخوئي سيأتي كلامه)[10].

      أقول: قوله: (حتى لو هو غلو) يدلّ على أنّ ما فهمه المُستشكل أنّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) ليس في مقام قبول عنونة (الغلو) كّما قُلنا، ولذا استعمل المُستشكل في مقام بيانه لعبارته (قده) حرف (لو) الذي يفيد معنى امتناع لامتناع، ويترتّب على ذلك، أنّه لم يُسمِّ تلك الأشياء بالغُلو إلاّ على سبيل التّنزّل والتّسليم الجَدلي، فلاحظ.

     الجواب الثّالث: سيوافيك -إنْ شاء الله تعالى- في مقام مناقشتنا لأجوبة بعض المُعاصرين، فاطلبه في محلّه.

     مُعالجة الشِّق الثّاني للإشكال:

     وأمّا ما انطوى عليه الإشكال مِن الشِّق الثّاني، فجوابه:
     أنّ كون هذه العَنْونة هي البداية لعقيدته (قده) التي أبرزها في أُخْرَيات حياته -كما يزعم المُسْتشكل- فهو مبني على أمرين:

     الأوّل: أنّ ثمّة ملازمة بين العَنْونة بالغُلو مع كون الغُلو هذا لا يشتمل على محذور ويجب الالتزام به في الجُملة، وبين اختيار السّهو في الموضوعات الخارجيّة.

     الثّاني: أنّه في آخر حياته صار إلى تبنّي سهو المعصوم (ع) في الموضوعات الخارجيّة.

      ويرد عليه:

      أوّلاً: وجه المُلازمة غير واضح، فعُهدة إثباتها على مُدّعيها.
      ثانياً: أنّه (قده) صار إلى المذكور في آخر حياته؛ أوّل الكلام، وقد عرفت بُطلانه بأكثر مِن وجه. 



للبحث تتمّة ،،،



[1]  راجع: في هذا البحث: (الموضع الثّالث) مِن (الشّخصيّة الأولى) مِن (المطلب الأوّل) مِن (المبحث الأوّل).
[2]  سورة: آل عُمران، الآية: 49.
[3]  فقه الشّيعة؛ (مدارك العُروة الوثقى (كتاب الطّهارة) )، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق السّيد محمّد الموسوي الخلخالي ج3 ص134-138، ط. مؤسّسة الآفاق، الطّبعة الثّالثة: 1418 هـ.
[4]  التّرقيم مِنّا.
[5]  التّنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الطّهارة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم المُحقّق الشّيخ علي الغَرَوي (قده) ج2 ص73-75، ط. مطبعة الآداب، النّجف الأشرف-العراق، الطّبعة الثّالثة: 1410 هـ.
[6]  تقدّم تخريج مصدر كلامه في بحثنا هذا، في: (الموضع الثّاني) مِن (الشّخصيّة الأولى) مِن (المطلب الأوّل) مِن (المبحث الأوّل).
[7] تنزيه الأنبياء للشّريف المُرتضى علم الهُدى ص121، ط. دار الأضواء، بيروت-لبنان، الطّبعة الثّانية: 1409 هـ.
[8]  الشّهادة الثّالثة المُقدّسة مَعْدِن الإسلام الكامِل وجوهر الإيمان الحقّ للشّيخ عبدالحليم الغزّي ص107.
[9]  فقه الشّيعة؛ (مدارك العُروة الوثقى (كتاب الطّهارة) )، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق السّيد محمّد الموسوي الخلخالي ج3 ص134-138، ط. مؤسّسة الآفاق، الطّبعة الثّالثة: 1418 هـ.
[10]  المصدر السّابق.