الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

الميرزا التبريزي (قده) وملعقة الشاي !



قصّة وعِبرة

بمناسبة الذّكرى الثّامنة لرحيل المرجع الكبير الميرزا جواد التبريزي (قده)


بقلم/ الشّيخ جابر جوير

     قبل أكثر مِن تسع سنوات كُنتُ بصُحبة سماحة العلاّمة الشّيخ عبدالله دشتي (حفظه الله تعالى) في زيارة خاصّة لمفخرة عُلماء الإماميّة المرجع الدّيني الكبير الرّاحل آية الله العُظمى الفقيه المُحقِّق المُدقِّق الميرزا جواد التّبريزي (قدّس الله روحه الطّاهرة)، وذلك قبل سنة ونصف السّنة تقريباً مِن وفاته، وتحديداً كان ذلك في ضُحى يوم الاثنين، بتأريخ: 25 صفر 1426 هـ، الموافق: 4 أبريل 2005 م.
     التقيناه في بيته الشّريف بمدينة قـُم المُقدّسة، ذلك البيت المعروف بتألّقه الرّوحي، والذي لا يزال حافلاً بالعطاء باحتضانه طُلاّب العِلم والفضيلة، وما انفكّ يُرسل بعبقه الولائي في كلّ حين.
    وحيث كُنّا في محضره المُبارك (تقدّست نفسه)، وبعد أنْ استقر بنا الجلوس، واكتسى المكان بهيبته، وخشع قلبي لبهائه وشموخه بعد أنْ تشرّفتُ بلثم أنامله الشّريفة؛ شَرَع (قدّس الله سرّه) بشيء مِن الأحاديث الولائيّة، وأفاض علينا برشحاته القُدسيّة، وفوائده العِلميّة، وإذا بأحدهم يدخل علينا يُضيّفنا الشّاي، واتّفق أنْ يخلو ما قدّمه لي مِن مِلْعَقة السّكر، فانتظرتُ ولم أشربه برجاء أنْ يتذكّر مَن صَنَعَهُ أنّه لم يُرفقه بالملعقة، ولكنّه أبطأ!، واستحيت أنْ أستعمل ملعقة مَن معي، فعزمت على أنْ أشربه هكذا، وكيف لي أنْ أفوّت على نفسي بركة شاي الميرزا (طيّب الله ثراه)؟!
    وفي أثناء الحديث التفتَ (رضوان الله تعالى عليه) إلى أنّني لم أشرب بعدُ ما قُدِّم لي مِن الشّاي، فبادرني بالسّؤال: لماذا لا تشربون شايكم شيخنا ؟
    فقُلت -على استحياء- : أشربه إنْ شاء الله تعالى مولانا.
    فتفاجأت أنّه (قدّس الله نفسه) أخذ يُحقّق النّظر في شايي! ثم همّ بالقيام!
    فسأله أحدهم -بما معناه- : بخدمتكم مولانا، ماذا تريدون؟
    فأجاب (رضوان الله تعالى عليه): الشّيخ يحتاج مِلْعَقة!!
    فبادر بعضهم طلباً لإحضار المِلْعَقة لي عوِضاً عنه (طاب مرقده).
    مشهدٌ قصير زمنياً، ولكنه نموذج عظيم يتدفّق بقيمه الرّبانيّة، ويزدحم بالدّلالات المعنويّة، والدّروس التربويّة، شهدّته وعاينته بنفسي، ولا يزال يتوقّد -بما يختزنه- في ذهني، لا أُريد أنْ أُحلّله وأسبر أغواره هنا، ولكن أكتفي بعبارة واحدة فقط، وأترك الباقي لوعي القارئ:
( إنّها مدرسة المُعظَّم الميرزا التّبريزي (عليه شآبيب الرّحمة) )!
    مُلاحظة: أُرفق مع هذه الكلمات صورة لنفس اللّقاء الذي اشتمل على الحادثة المذكورة، التقطها لنا سماحة العلاّمة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ جعفر التّبريزي (دام عُلاه) بكاميرته.


* القصّة منشورة في الموقع الرّسمي للمرجع الرّاحل (قده) على الإنترنت: 


جابر جوير


الكويت

الذّكرى الثّامنة لرحيل الميرزا التّبريزي (طيب الله ثراه)
 يوم الاثنين

28 شوّال 1435

25 أغسطس 2014م

الخميس، 21 أغسطس 2014

الانتصار لزعيم طائفة الأبرار (8)



في

|مسألة سهو النّبي (ص) المُختار|

الرّد على الشّبة التي أثارها (الغزي) و(فضل الله) و(الحيدري) وبعض (أهل السنة)

حول رأي المحقق السيد الخوئي (قده) في مسألة سهو النّبي (ص)

(مع قراءة نقديّة ومناقشات علميّة لأبرز الرّدود)

بقلم: الشّيخ جابر جوير

~ الحلقة الثّامنة: قراءة نقديّة لأبرز الرّدود على الشّبهة / ج1 ~  


 *****************************







المبحث الرّابع: قراءة نقديّة لأبرز الرّدود على الشّبهة

      بعد أنْ استوفينا إجراءات الجواب عن الشّبهة المُثارة على عبارة المُحقِّق السّيد الخوئي (قده) الواردة في الاستفتاء؛ وحاولنا مِن خلال هذه التّجربة التي قدّمناها الانفتاح على مداليل خطابه (قده) على مستوى أعم مِمّا جاء في الاستفتاء وغيره، عبر الاشتغال على تفكيكه، واقتفاء دِلالاته بما نحسبه ينسجم مع النّسق العِلْمي الموضوعي بهدف إعادة الأمور إلى مواقعها، ووضع فهم المُتلقّي على المسار الصّحيح.
     بعد هذا يحين الوفاء بما وعدناك به في توطئة البحث، فنشرع بتقديم قراءتنا النّقدّية لأبرز ما وقفنا عليه مِن الرّدود المُنجزة في سياق التّصدّي للشّبهة المطروحة، بوصفها تجارب عِلميّة حاولت أنْ تُقدِّم مقاربات وحلولاً في ميدانها جديرة بالتّأمل والمُراجعة -شكر الله مساعي أصحابها- بدواعي ذكرناها في محلّها مِن توطئة هذا البحث.
     هذا، وقد أغفلنا بعض الرّدود الأُخرى إمّا لكونها شديدة الضّعف، أو لكونها لم تتجاوز الاقتباس والنّقل، -وفي بعضها- عدم الإيعاز إلى الأصل!، أو لكون أصحابها مِمّن يضيق صدره بمثل هذه المُمارسات النّقديّة العِلميّة؛ فيعلو أو يدنو بها عن أُفِق البحث العِلْمي المحض ليصنّفها ضِمن المساس الشّخصي ونحو ذلك؛ فدرءً لنقض الغرض أعرضنا عنها، واكتفينا بما سنذكره فيما يأتي.

الرّد الأوّل: ما أفاده المُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده)

المطلب الأوّل: عرض الرّد

    وُجّه السّؤال الآتي للمُحقّق الميرزا التّبريزي (قده)، وأجاب عنه بما يليه:
     جاء في ( الجزء الأول من صراط النجاة ، ص 462 في الجواب عن المسألة رقم 1294 ) نقلًا من السيد الخوئي (قده) : « القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية » .
     لم يرد لكم تعليقة على الجواب ممّا يعني الموافقة فما هي الموضوعات الخارجية التي تكون خارجة عن عهدة العصمة فهل ترون قضية سواء بن قيس والقضيب الممشوق مثلًا مع رسول الله ودعاء الرسول له نرجو توضيح ذلك .
[الجواب:]
باسمه تعالى
     مراده (قده) من العبارة المذكورة أنّ القدر المتيقن عند علماء الشيعة والذي وقع عليه تسالمهم هو عدم إمكان السهو على النبي (ص) في تبليغ الأحكام الشرعية وبيان المعارف الدينية وأمّا الموضوعات الخارجية فالصحيح فيها أيضاً وإن كان هو عدم جواز السهو على النبي والإمام (ع) إلَّا أنه ذهب بعض علمائنا كالصدوق (ره) وأستاذه محمد بن الحسن بن الوليد وبعض آخر إلى جواز السهو فيها إذا كانت هناك مصلحة تقتضيه مثل أن لا يتوهم الناس الألوهية فيهم واستندوا في ذلك إلى بعض روايات وردت من طريقنا في نوم النبي (ص) عن الصلاة وسهوه في صلاته وفاقاً لما رويت من طريق العامة ونحن قد أجبنا عن ذلك في بحوثنا في كتاب الصلاة مبحث أوقات الصلوات وقلنا أنّ في نفس تلك الروايات الواردة عن أئمتنا (عليهم السلام) قرينة تدل على أنّها صدرت تقية ومراعاة لروايات العامة وقد ذكرنا هناك أنّ الصحيح ما عليه مشهور علمائنا الأبرار من عدم إمكان السهو على النبي والإمام صلوات الله عليهم حتى في الموضوعات الخارجية لأنّ هذا ممّا يوهن أمر النبي والإمام (ع) ويوجب الارتياب والشك للناس بالنسبة إلى بيان الأحكام الشرعية أيضاً ، وأمّا على النبي (ص) والإمام (ع) بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية فالقدر المتيقن منه عندنا أنّ النبي (ص) أو الإمام (ع) إذا كان في علمه بالموضوع مصلحة وأراد أن يظهر الله تعالى له واقع الأمر يظهره له وأمّا قضية سواء بن قيس فظاهر المنقول فيها غير قابل للتصديق وكأن الواقعة على ما يظهر من بعض النقل لم تكن متحققه وإنّما كان غرضه شيئاً آخر والنبي (ص) لكونه رؤوفاً ورحيماً لم يظهر الخلاف بل أظهر كأن ما يدعيه هو الواقع والوجه في عدم إمكان التصديق أنّ القصاص أنّما يثبت في موارد الجناية عمداً وهذا غير محتمل بالنسبة إلى النبي (ص) ، والله العالم).[1] انتهى.

المطلب الثّاني: وقفة مع ما أفاده المُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده)

     أقول: هذا المقدار مِن البيان غيرُ وافٍ بدفع المُشْكِلة؛ وللخِدشة فيه مجال واسع؛ مِنْ جِهة كونه على خلاف ظاهر العبارة -لو سُلّم انعقاده، وقد استوفينا الكلام على ذلك في محلّه- ، والذي مُقتضاه عدم اعتبار قيد زائد في المقام؛ فإنّ إرجاع (القدر المُتَيقَّن) إلى ما (عند عُلماء الشّيعة، والذي وقع عليه تسالمهم)، قيد زائد، لا يُساعد عليه الظّاهر مِن مقدار ما أفاده المُحقِّق السّيد الخوئي (قده)، ولا يوجد مُصحّح له.

     نعم، بناءً على ما حقّقنها في محلّه مِن كون انعقاد الظّهور أوّل الكلام، وكون المُترجّح هو الإجمال؛ يكون لما ذكره المُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) وجه.

     إلاّ أنّه غير تام أيضاً؛ إذْ ما ذَكَرَه (قده) بمثابة فرد بقوّة عدّة أفراد مُحتملة يقع في عَرْضِها تم ذكرها في محلّها مِن هذا البحث، وتعيينه يحتاج دليلاً، وهو مفقود في المقام.

      اللّهم إلاّ أنْ يُقال: أنّه (قده) وقف على ما لم نقف عليه مِمّا هو خارج عن حدود ما يوفّره المقام.

     فإنّه يُقال -حينئذ- : ليس عن مِثله (قده) ببعيد، إذْ هو الأَوْلى بفهم مُراد أستاذه (قدهما)، وهو الأخبر بمقاصِده ومبانيه، لا سيّما أنّه (قده) ليس في مقام التّعرّض لهذه الجِهة، وإلاّ فلا كلام في كون الدّعوى مُنقّحة عنده في غير المقام بما سوّغ توجيهه المذكور، وحينئذ: يكون ما أفاده سالم عن الإشكال مِن هذه الجِهة، ولكنّ الشّأن كلّه في إثبات تماميّة ما تنقّح عنده واستقرّ عليه في محلّه، وإلاّ فالالتزام بمؤدّى هذا الاحتمال بمُجرّده لا يخلو عن الإشكال.

     ومُضافاً إلى أنّه يُمكن أنْ نقول: أنّ الإشكال الذي أثرناه لا يلحظ الجواب بما هو صادر عن المُحقِّق الميرزا التّبريزي (قده)، بل الملحوظ هو: الجواب بما هو هو؛ فيتّجِه إلى جوابه (قده) ملحوظاً بنحو القضيّة المُهملة مِن هذه الجِهة، فيبقى الإشكال قائماً مع قطع النّظر عن خصوصيّات المورد، فإنّه وارد على غيره مِمّن اقتبسه مِنْه (قده) مع عدم الإيعاز إليه! ؛ لكون المُقْتبِس لا يتوفّر على خصوصيّة في نفسه، بخلاف الميرزا التّبريزي (قده) الذي أومأنا إلى خصوصيّته -لو سلّمنا أنّ المقام مشمولاً بما تقتضيه تلك الخصوصيّة- ، فلا تغفل.

الرّد الثّاني: ما أفاده العلاّمة السّيد جعفر مُرتضى العاملي (حفظه الله تعالى)

المطلب الأوّل: عرض الرّد

     وله في المقام جوابان، ثانيهما اختصار للأوّل:

     الجواب الأوّل:

     قال في المجموعة الرّابعة من كتابه (مُختصر مُفيد)؛ جواباً عن سؤال لأحدهم:
     ( بالنسبة لما ذكرتموه عن كلام السيد الخوئي حول سهو النبي (ص)، نقول: إن السيد الخوئي (ره) قد ذكر ذلك في صراط النجاة ج 1 ص 461 حين أجاب على سؤال مطول حول هذه المسألة بقوله : (القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية والله أعلم).
     ونشير هنا إلى ما يلي :
      1- إن السيد الخوئي إنما تحدث عن القدر المتيقن هنا.. أي يشير إلى الأمر الذي لا شبهة فيه، أو لم يقع فيه خلاف، فهل هو بالنسبة لما عدا القدر المتيقن يرى جواز السهو فيه، أو أنه يرى عدمه، إن هذا ما لم يشر إليه بشئ. فلا يصح نسبة القول بالجواز إليه فيه.
     2 - إن السؤال الموجه إلى السيد الخوئي إنما كان عن قضية ذي الشمالين وسهو النبي (ص)، في الصلاة ، وقد نفى السيد الخوئي أن يكون ذلك داخلاً في القدر المتيقن ، ومعنى ذلك : أنه يكذب قضية ذي الشمالين التي هي مورد السؤال).[2] انتهى.

     الجواب الثّاني:

     قال في المجموعة العاشرة من كتابه (مُختصر مُفيد)؛ جواباً على سؤال مُوجّه إليه:
     ( وأما ما نسبتموه إلى السيد الخوئي قدس سره ، وقلتم : إنه يجوز عنده على المعصوم أن يخطئ في الأمور الحياتية ، فهي نسبة غير دقيقة.. لأن السؤال الموجه إليه ، هو التالي : (ما هي حقيقة الحال في مسألة إسهاء النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر ، وهل يلزم أن يسهي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ليعلم الناس أنه ليس بإله ؟ !).. إلى أن قال السائل : (وهل صحيح أن ذا اليدين الذي تدور عليه روايات الإسهاء أو السهو ، لا أصل له ، وأنه رجل مختلق الخ).
     فأجاب (ره) : (القدر المتيقن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجية).. فترى أنه (ره) قد تحدث عن القدر المتيقن، أي أنه قد اكتفى بذكر ما لا شبهة فيه، أو لم يقع الخلاف فيه بين الشيعة والسنة، أو بين الشيعة أنفسهم.. أما رأيه بالنسبة لما عدا هذا القدر المتيقن، فهو لم يتعرض لبيانه..فلا يصح نسبة القول بجواز السهو فيه إليه..)[3].انتهى.
     أقول: يجدر أنْ نُسجّل هنا أنّه قد دَرَجَ غير واحد على اقتباس هذا الرّد بعد إعادة صياغته، إمّا كُلّياً أو جُزئيّاً، مع تجنّب الإيعاز إليه تصريحاً وتلويحاً ! ، بل وعبث البعض بِبُنية النّص بإعادة إنتاجه وطرحه بصورة هزيلة وهشّة جدّاً !

المطلب الثّاني: مناقشة الرّد

     أقول: ما أفاده (حفظه الله تعالى) مِمّا لا يُمكن الالتزام به في الجُملة؛ وذلك مِن جِهتَيْن:

    الجِهة الأولى: تتعلّق بالقِسم الأوّل مِن جوابِه، أعني: كلامه حول المقصود بـ(القدر المُتيقَّن).

    وهو غير نقي عن الاشكال؛ لأنّه دعوى مجرّدة عن الدّليل، بل الدّليل على خلافها.

     وإذا أردنا أنْ نلتمس لها دليلاً؛ فإنّ عُمدة ما يُمكن أن يصلح أنْ يُتّكأ عليه في مقام التّصور لا يخلو مِن أنْ يكون أحد أمرين:

     الأوّل: ما سَلَكَه المُحقّق الميرزا التّبريزي (قده) مِن تعيين المُتَيقِّن (بالكسر) بتوسّط الظّرفيّة ومدخولها، ومؤدّاه: تحييث عنوان المُتيقَّن (بالفتح)، وتحصيصه بما يكون مقصوراً على خصوص ما كان محلاًّ للتّسالم، فيكون ما أفاده (حفظه الله تعالى) يرجع روحاً إلى إفادة المُحقّق الميرزا التّبريزي (قده)، وقد عرفت ما فيها بما أغنانا عن الإعادة هنا.

     والمائز بين الإفادتَيْن غايته: أنّ الأُولى اشتملت على التّصريح بتوسيط الظّرفيّة، بينما الثّانية تمّ فيها القَفْز مُباشرة إلى النّتيجة، فتكون عبارته بقوّة ما لو قلنا -على طِبق تعبيره الثّاني- هكذا: (اكتفى بِذِكْر القدر المُتيقَّن الذي لم يقع الخلاف فيه)، أو -على طِبق تعبيره الأوّل- هكذا: (يُشير إلى القدر المُتيقّن الذي لم يقع فيه خلاف).

     ويوهن هذا الاحتمال: أنّه على خلاف ظاهر عباراته (حفظه الله تعالى)؛ الذي يقتضي البناء على أنّ مُتعلّق كلامه هو مدلول مُركّب: (القدر المُتيقّن)، فظاهره مُعالجة المدلول الوضعي، بخلاف إفادة المُحقّق الميرزا التّبريزي (قده)، التي جاء فيها المدلول الوضعي محفوظاً.

     بل: لا يتّفق هذا الاجراء مع الشِّق الأوّل مِن إفادته، أعني قوله: (ما لا شُبهة فيه)؛ فلا يصحّ أنْ يُطبّق هنا أيضاً، بحيث يُقال -على نَسق عبارته في الجواب الثّاني- : (اكتفى بذكر القدر المُتيقّن الذي لا شُبهة فيه!)، أو -على نسقها في الأوّل- : (يشير إلى القدر المُتيقّن الذي لا شبهة فيه!)؛ إذْ لا يُتصوّر في المُتيقّن اقترانه بالشّبهة؛ كي يُحترز عن ذلك بالقيد المذكور.

    اللّهم إلاّ أنْ: نحتمل أنْ يكون القَيْد -الذي هو الشّق الأوّل- في المقام مأخوذاً على نحو التّوضيح لا الاحتراز.

     ولكنّه مدفوع: لأنّه مبني على الالتزام بكون القيد الأوّل مأخوذاً على نحو التّوضيح، والثّاني على نحو الاحتراز، وهو لا يخلو عن الإشكال كما هو واضح؛ إذْ هو بلا دليل، ولا يوجد في المقام ما يقتضيه.

     نعم، إنْ صحّ الالتزام بأنّ العطف بـ (أو) مسوق على سبيل تعلّق مُراده (حفظه الله تعالى) بانضمام مجموع معنى المعطوفَيْن -كما ستجيئ الإشارة إليه في محلّها- ؛ حينئذ: يكون للاحتمال المزبور وجه؛ بحمل معنى العطف المذكور على توضيح أحد المعطوفين للآخر.

          ونقرّب ذلك: بأنّ مقصوده (حفظه الله تعالى) مِن نفي الشّبهة؛ هو معنى عدم الخِلاف، كما عبّر بذلك تالياً، بحيث يكون قد ذكر السّبب بقصد إرادة المُسبَّب، ضرورة أنّ انتفاء الشّبهة عند الجميع موجب لعدم الخلاف، أو قُل: أنّ عدم الخلاف معلول لانتفاء الشّبهة في مَعْقَدِه.

     إلاّ أنّه: موهون؛ إذْ يقتضي الالتزام بثَلْم الظّاهر مِن كلماته (حفظه الله تعالى)، فلا يخلو عن تكلّف، وبُعْد؛ لأنّ استفادة هذا المعنى منوط بتقدير مُنقّح في مرتبة سابقة، بحيث تكون العبارة على هذا النّحو: (ما لا شبهة فيه عند الجميع)، وهذا مِمّا لا دليل عليه.
   

     اللّهم إلاّ أنْ يُقال: أنّ محض البناء على كون العطف مأخوذاً على النّحو المذكور، يكفي في تصحيح التّقدير الذي ذكرناه.

     وفيه: أنّ البناء لا يقود في حدِّه إلى النّتيجة المُتوخّاة، بل يعوزه مزيد مُعالجة، وهو إثبات أنّ معنى أحد جُزئي المجموع ملحوظ على سبيل توضيح الآخر، والعِبرة بالدّليل في المقام على ذلك كلّه، وهو كما ترى!

     مُضافاً إلى ذلك: ما قد يرد على أصل البناء في هذه المُحاولة، وذلك بـأنْ يُتمسّك بكُبرى ظهور العطف في أمثال المقام في غير البناء على مجموع المعنَيَيْن، أو دعوى ظهوره في التّباين، أو اقتضائه المُقابلة، فتأمّل.



     الثّاني: استفادة ما ذكره (حفظه الله تعالى) مِن حاقِّ ألفاظ العبارة؛ وذلك بحمل معنى (القدر المُتيقّن) على: (الذي لا شُبهة فيه)، أو (لم يقع فيه خلاف)، وهو مِمَّا لا مجال للمُوافقة عليه.

    وبُرهانه: أنّ سواء كان مقصوده هو: اعتبار البناء على أحد المعنَيَيْن الذين ذكرهما، أو مجموعهما، مع قطع النّظر عن الأصل الجاري في أمثال المقام، وكذا تماميّة مُناسبة تطبيق الالتزام بالجمع؛ فإنّ ما أفاده قابل للمُناقشة على كلا التّقديرَيْن:

     التّقدير الأوّل:

     ويُلاحظ عليه:

     ألف- بالنّسبة إلى الطّرف الأوّل (=المعنى الأوّل) :

     أنّ توجيه عبارته (قده) وحملها على معنى: (الذي لا شُبهة فيه)؛ مِن قبيل التّوضيح أو التّفسير بالأعم، بعد كون المُعْتَبَر في معنى (الثّابت) هو المدلول العُرفي الخاص الذي اصطلح عليه الفقهاء، فالثّابت -بهذا المعنى- لا يخلو حاله مِن أنْ يكون: مقطوعاً أو مظنوناً على نحو الظّن الخاص، وهو بكلا قِسمَيْه مصداق لعنوان (ما لا شبهة فيه)، ومع انتفاء العُنوان ينتفي المُعَنْوَن، بداهة كونه يدور مداره وجوداً وعدماً.

    وعلى ضوء ذلك: يُمكن أنْ نقول أنّ ما أفاده محاولة غير تامّة في نفسها؛ لكونها جعلت المُتيقَّن مُعادِلاً لما لا شُبهة فيه، والأخير أعمّ مِن ذلك وغيره، ويترتّب على ذلك محذوران:

     الأوّل: إبهام المُراد وتنحيته عن ذِهن المُتلقّي -الذي يترقّب التّوضيح والبيان مِن خِلال طرحه للسّؤال وإلقائه في عُهدة المُجيب- باستنادها إلى التّوضيح أو التّفسير بالأعم.

    الثّاني: أنّ الالتزام بكون غير ما ذكره المُحقِّق السّيد الخوئي (قده) خارجاً عمّا لا شُبهة فيه؛ يقضي بضرورة الحُكم على ذلك الخارج بكونه مشوباً بالشُّبهة؛ مِمّا يحول دون تحقّق دخوله ضمن عنوان (امتناع السّهو)، ومعه: يمتنع تصوّر دخوله ضِمنه بِوَجْه؛ إذْ ما كان كذلك لا يكون ثابتاً، وحينئذ: يصحّ الإشكال؛ لأنّه يظهر مِن كلامه (حفظه الله تعالى) أنّ ما عدا القدر المُتيقَّن عنده يتردّد بين الجواز وعدمه، فيُلتزم بكون المُحقّق السّيد الخوئي (قده) يرى عدم ثبوت امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة، وهو خُلف، وبذلك يبقى الإشكال عالقاً بلا دافع، فما أفاده (حفظه الله تعالى) فيما بعد مِن أنّه: (بالنسبة لما عدا القدر المتيقن يرى جواز السهو فيه، أو أنه يرى عدمه، إن هذا ما لم يشر إليه بشئ. فلا يصح نسبة القول بالجواز إليه فيه)، مّما لا يُمكن المُساعدة عليه مِن مُحيط إفادته، بل هو مخدوش بنفس ما ذكره ابتداءً.

     نعم، يُحتمل أنْ يكون الملحوظ: أنّ هذا النّحو مِن الظّن فيه شُبهة، وإنْ كانت غير تامّة، بتقريب: أنّ غير المشمول في كلام المُحقِّق السّيد الخوئي (قده) مشوب بالشّبهة غير التّامة.

     إلاّ أنّه مدفوع: بأنّه مُضافاً إلى كونه لا يخلو عن تكلّف، فإنّ التّفكيك في استعمال هذا العنوان (ما لا شُبهة فيه) في معنى الشّبهة غير التّامة، وعدم وجود شُبهة أصلاً؛ غير عُرفي، على أنّ حتى المُتيقَّن لا يخلو مِن الشّبهات غير التّامة، فتدبّر.

     كما أنّه يُحتمل: أنْ يُراد بعنوان (الشّبهة) هنا هو: (احتمال الخِلاف)؛ الذي يرد في المظنونات أو الأمارات.

     وفيه: أنّه مع بُعْدِه، أنّ (احتمال الخلاف) مُلغى في مثل ذلك، ولا معنى حينئذ: لإبقاء عنوان (الشّبهة) بعد انتفاء موضوعها ولو تعبّديّاً.

      والحاصل: أنّ ما أفاده (حفظه الله تعالى) في غير محلِّه، وهو في غاية الإشكال.

     ب: بالنّسبة إلى الطّرف الثّاني (=المعنى الثّاني) :

     فإنّ معنى (لم يقع فيه خِلاف)؛ أجنبي عن إطار المدلول الوضعي لعبارة (القدر المُتيقَّن)، وإنّما يُستفاد مِن خارج حاقّ اللّفظ؛ مِمّا يُحتاج معه إلى مؤونة زائدة يقصر عنها المقام، ولم يُعهد -على ما أعرف- مِن لُغة الفقهاء استعمال هذه العبارة في هذا المعنى!، ولو كان؛ فلا بدّ حينئذ مِن قرينة مُعتبرة موجِبِة لحمل الكلام على ذلك المعنى، والمقام كما ترى.

     هذا، ونَحْتَمِل أنْ: يُستند في تصحيح إفادته (حفظه الله تعالى) إلى أنّه مِمّا لا ينبغي الإشكال في كون (ما لم يقع فيه خِلاف) مِن قبيل المُتيقّن، بعد الالتزام بكون التّوضيح مأخوذ على نحو الحمل الشّائع الصّناعي.

        ولكنّه في غير محلّه: لأنّه النّسبة بين (المُتيقَّن) و(ما لم يقع فيه خلاف) ليست مِن قبيل التّساوي، فاستفادة معنى (ما لم يقع فيه خلاف)؛ تعيين لفرِد مِن أفراد (المُتيقَّن)؛ لكون الأوّل أخصّ مِن الثّاني، ولا مُسوِّغ في المقام يقضي بالتّعيين، فارتكابه مِن قبيل التّحكم.
     والحاصل: أنّ ما أفاده (حفظه الله تعالى) عُدول عن الأصل؛ فيحتاج مؤونة زائدة عن مُعطيات المقام.

     التّقدير الثّاني:

    وفيه: أنّه يرد عليه ما ذكرناه بتمامه مِن إشكال يتوجّه إلى الطّرف الثّاني (=المعنى الثّاني)، فليُراجع هناك.



     الجهة الثّانية: تتعلّق بما ذكره في القِسم الثّاني مِن جوابه، والذي حاصله: أنّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) نفى أنْ يكون ذلك داخلاً في (القدر المُتيقَّن)، ومعناه: تكذيب قضيّة ذي الشّمالَيْن؛ غريب جداً، لا سيّما مِن مِثله! ؛ فهو كرّ على ما فرّ منه؛ إذْ لا مُلازمة بين خروجها عن (القدر المُتيقَّن) ؛ وكونها مكذوبة؛ لأنّ القضيّة (القصّة) المذكورة أعم من كونها ثابتة أو غير ثابتة، بعد كونها مِن جُملة المسكوت عنه؛ بلحاظ أنّ موضوعها مِن صُغريات عنوان السّهو في الموضوعات الخارجيّة، الذي صرّح (حفظه الله تعالى) بأنّ ما عدا موضوع (القدر المُتيقَّن) غير مشمول بالبيان، فلا يجتمع الحُكم بتكذيب القضيّة مع كونها داخلة في موضوع ما لم يتعرّض لبيانه أو ما لم يُشر إليه بشيء!

     نعم، على المعنى الأوّل الذي ذكره، وهو: (ما لا شُبهة فيه)، مع الالتزام بالتّقدير الأوّل الذي مرّ في محلّه؛ يُمكن أنْ نُصحّح هذا الذي ذكره، إلاّ أنّه لا يتّفق مع ما صرّح به (حفظه الله تعالى) : بأنّ (رأيه بالنسبة لما عدا هذا القدر المتيقن، فهو لم يتعرض لبيانه.. فلا يصح نسبة القول بجواز السهو فيه إليه)، و(فهل هو بالنسبة لما عدا القدر المتيقن يرى جواز السهو فيه، أو أنه يرى عدمه، إن هذا ما لم يشر إليه بشئ. فلا يصح نسبة القول بالجواز إليه فيه).انتهى.
     إذْ لا معنى للتّمسك بكونه (قده) لم يتعرّض لبيانه، بعد فرض أنّه فَرَغَ مِن ذِكْر (ما لا شُبهة فيه)، والذي يُساوق نفي صفة الثّبوت لغير موضوعه.

  مُضافاً إلى أنّ: الالتزام بهذا المعنى موجب لإلغاء الالتزام بالتّقدير الأوّل -كما لو فرضنا الحمل في ضوء هذا التّقدير على الشِّك والتّرديد- ؛ إذْ لا معنى له مع الالتزام -على نحو الجزم- بآثار أحد طَرَفي الشّك، فتدبّر جيّداً.

     فالمُتحصّل: أنّ الالتزام بما أفاده في هذه الحيثيّة يُقوِّض اعتراضه بالجُملة؛ لأنّ مؤدّى كلامه: أنّ كل ما خرج عن القدر المُتيقّن فهو محكوم بعدم الثّبوت؛ بدلالة دعواه تكذيب قضيّة ذي الشّمالَيْن التي تضمّنت موضوع السّهو في الموضوعات الخارجيّة، وبذلك يتَّجه الإشكال (الشّبهة) المُثار على المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، وهو أنّه يرى عدم امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة، فمحاولته (حفظه الله تعالى) غير تامّة.



للبحث تتمّة ،،،



[1]  صِراط النّجاة في أجوبة الاستفتاءات للمُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ج5 ص 288 مسألة: 931، ط. دار الصّديقة الشّهيدة (عليها السلام)، قم-إيران، الطّبعة الأولى: 1427 هـ. ، والأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة للمُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ص106،  ط. دار الصّدّيقة الشّهيدة (عليها السلام)، قم-إيران، الطّبعة الأولى: 1422 هـ. .
[2]  مُختصر مُفيد: أسئلة وأجوبة في الدّين والعقيدة للسّيد جعفر مُرتضى العاملي (حفظه الله تعالى) ج4 ص135-ص139 السّؤال: 210 ، ط. المركز الإسلامي للدّراسات، بيروت-لبنان، الطّبعة الأولى: 1423 هـ.
[3]  مُختصر مُفيد: أسئلة وأجوبة في الدّين والعقيدة للسّيد جعفر مُرتضى العاملي (حفظه الله تعالى) ج10 ص191-192، ط. المركز الإسلامي للدّراسات، بيروت-لبنان، الطّبعة الأولى: 1423 هـ.