الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

تحديد الشّعائر ليس بِيَد العوام!



قراءة مُتأنّية في فتاوى الشّعائر الحُسينيّة
 
فتوى المرجع الدّيني الشّيخ الصّافي الگلپايگاني (دام ظله) نموذجاً


" مُراجعة سِجال فِقهي ومناقشة لما طرحه بعض السّادة (سلّمه الله) "



بقلم/ الشّيخ جابر جوير

     توطئة:
  
    أُقدّم عبر هذه الأوراق القليلة نموذجاً لقراءة نقديّة أجريتُها لبعض المُساهمات العِلميّة والفكريّة التي أفرزتها حركة جدليّة وسِجاليّة اقتحمت المشهد الدّيني خلال الفترة الأخيرة وشغلته بصورة مُتنامية، على خلفيّة ما يُثار حول الشّعائر الحُسيّنيّة، وما صاحب ذلك مِن صخب بالغ، وارتباك ظاهر، وقلق متراكم لازال حاضراً مُتوهِجاً في الوسط الدّيني العام، ووجدّتُني ميّالاً لخيار المُساهمة في صناعة هذا الحِراك -والذي تحوّل إلى فوضى في بعض اتجاهاته- مِن خلال ضبط مساره العِلْمي، باستحضار الأدوات والمُقرّرات العِلميّة، وتفعيلها في إعادة قراءة المُعطيات الماثلة، بما يُتيحه لي مقدار استيعابي، ويسمح به فهمي المتواضع، ولأجل ذلك عَمَدتُ إلى انتخاب نماذج مِن المُساهمات المطروحة في هذا السّياق، وتسليط الضّوء عليها، وستتبع هذه التّجربة إنْ شاء الله تعالى نماذج أخرى مُتّصلة بالإطار نفسه، أتوخّى مِن تحليلها، وأترقّب مِن دراستها رفد السّاحة بالمُعالجات العلميّة، والطّروحات الموضوعيّة، بما يؤدّي إلى تغذية الوعي المطلوب، بعيداً عن الابتذال والتّسطيح العِلْمي.
     ونظراً لحساسيّة البحث في مواضيع مِن هذا القبيل، لاسيّما في ساحتنا الشّيعيّة المحلّية (الكويتيّة)، التي تتعقّد معها مُهمّة كهذه! ؛ لكون مِلاك التّقييم فيها هو المواقف بقدر أكبر مِن رصيد الإسهام العِلْمي؛ فإنّي أجدني مُلتزماً بالإعلان هنا عن أمر -مع كونه لا يخفى على مَن يعرفني!- دفعاً لاحتمالات التّوهم، وقطعاً لطريق التّشغيب ومحاولات المُزايدة على بعض ما أتبنّاه، مع كونه لا دخالة له في البحث العِلْمي!، وهو: أنّي مِمّن يتبنّى ممارسة (جميع) الشّعائر الحُسينيّة التي دأب فقهاء الطّائفة على الإفتاء بها ابتداءً مِن الفقيه المُحقّق النّائيني (قده)، وانتهاءً بمراجع الدّين المُعاصرين، كالمرجعَيْن العظيمَيْن الميرزا جواد التّبريزي (قده)، والشّيخ الوحيد الخُراساني (دام عطاؤه المُبارك)، وغيرهما مِن أعلام وأعاظم الطّائفة الحقّة (دامت بركات وجودهم الشّريف).

     تحديد الشّعائر ليس بِيَد العوام!

     هذه العبارة أُقتبست مِن جواب استفتاء مُوجّه للمرجع الدِّيني الكبير سماحة آية الله العُظمى الشّيخ لُطف الله الصّافي الگلپايگاني (دام ظلّه الشّريف)، أثارت اختلافاً وجدلاً ضِمن أجواء ما يُثار حول قضيّة الشّعائر التي شغلت السّاحة، وهذا المَوْرِد يصلح أنْ يكون نموذجاً نقدِّمه للدّراسة؛ يكشف عن اتجاهات وآليات التّعاطي مع كلمات الفُقهاء، ومحاولات توظيفها في حسم النّزاع، حيث  انقسموا بإزاء هذه الفتوى إلى فريقَيْن:


    الأوّل: استفاد منها توقيفيّة الشّعائر!


    الثّاني: استفاد منها غير ذلك! وفسّرها -بضميمة كلمات أخرى للمرجع نفسه (دام ظلّه)- على أنّ تحديد الشّعائر راجع إلى العُرف، بما يجعل تشخصيها في عُهدة المُكلّف!


    وستقف في نهاية البحث الذي بين يديك على أنّ كلا الفريقَيْن قد جانب الصّواب -في تقديري- ، فليس يصح شيء مِن ذلك كلّه!


      وتحريراً للكلام واستيفاءً لجميع جوانب البحث؛ نعقده مِن جهتين:

      الجهة الأولى: نقل كلمات جواب الاستفتاء الصّادر مِن مكتب المرجع الصّافي (دام ظلّه)

     
      جاء الجواب عن الاستفتاء بهذا النّص : (تحديد الشّعائر ليس بيد العوام وأهل الولاية من المؤمنين وإنما هي بيد العلماء العارفين بمصاديق الشّعائر المطلعين على لوازمها الصحيحة والفاسدة فليس كل من جاء بطريقة خاصة وادعى أنها شعيرة يقبل قوله ويتبع عمله). [1]

        الجهة الثّانية: وقفة مع إفادة بعض السّادة (سلّمه الله)
     كتب بعض السّادة تعليقاً على جواب الاستفتاء المذكور، بما يشتمل على عدّة إشكالات -في نظري القاصر- ؛ بحيث يجعل مِن مُراد سماحة المرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه) شيئاً آخر غير الذي أراده هو (دام ظلّه)! ؛ اقتضى ذلك أنْ أعلّق بما أراه نافعاً؛ لإعادة الأمور إلى مواضعها، وتتّضح بما لا لبس فيه، فنخلص بذلك إلى تعيين موقع فتواه وأبعادها، ومدى صلاحيّة توظيفها في ظلّ النّزاع القائم في السّاحة.
    مِن جُملة ما كتبه بعض السّادة تعليقاً على جواب الاستفتاء، ونشره بتاريخ: 17-12-2014م، في حِسابه الرّسمي على موقع (تويتر)
[2] :

     قال:

     ألف: (أنه تضمن أمرين أساسيين لا علاقة لهما بمفهوم الشعائر وهل أنها توقيفية أم لا: الأول أن تحديد الشعائر ليس بيد العوام وهذا صحيح في حد ذاته ولكن لم يبين ما هو الضابط في الشعائر في رأي المرجع الصافي ، وهل أنه يرى أن العرف يتدخل في تحديد مظاهر الأحزان من عدمه فلو افترضنا أن المرجع كان يرى ان الملاك في تحديد شعائر الأحزان عرفي -وكما سنثبت - فإن العوام لهم حق تشخيص العرف بعد أن أرجع المرجع إليه ...).

     ب: (رأي الشيخ الصافي الذي بينه بشكل واضح وبنفسه في كتبه الأخرى وهي: الشعائر الحسينية ومعارف دين ففي كتابه معارف دين (بالفارسية) ج١ ص٣٢٩ يقول: ونستطيع القول من هذا الحديث أن كل ما يراه العرف من صور العزاء فهو مطلوب سواء كان بصورة لبس السواد أو الصياح في العزاء أو النحيب والبكاء أو قراءة الرثاء أو المشي حافيا أو الصور المقبولة والمشروعة الأخرى وهي موجبة للأجر العظيم...وعدم توقيفية الشعائر عنده وأنها تابعة لكل ما يراه العرف مظهرا للحزن لم يقتصر على مافات بل ذكره أيضا في معارف دين ج٣ ص١٢٧ والشعائر الحسينية ص١١٣وهذه صور الوثائق الواضحة والصريحة من المرجع الصافي في المطلوب والتي تبين بوضوح أن الشعائر تتبع ما يراه العرف مظهرا للحزن...).

     مناقشة ما أفاده:

    أقول: حاصل إفادته؛ أنّه نسب إلى المرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه) تبنّي كون المِلاك في اندراج العمل ضِمن عنوان الشّعائر هو: العُرف، بحيث يكون تحَقُّق العنوان يدور مدار العُرف، ويترتّب على ذلك: أنّ تشخيص مصداق الشّعيرة موكول إلى المُكلَّف، فإذا فرضنا أنّه شخّص أنّ العمل الكذائي مِن قبيل إظهار الحُزن عُرفاً؛ فإنّه حينئذ: يُصنِّفه ضِمن عنوان الشّعيرة، وكُل ذلك يُستفاد مِن مجموع ثلاث تصريحات جاءت في الكلام الآنف للسّيد صاحب الدّعوى، ولا بأس بإفرادها هنا مرّة أخرى:

     التّصريح الأوّل: (فلو افترضنا أن المرجع كان يرى ان الملاك في تحديد شعائر الأحزان عرفي -وكما سنثبت - فإن العوام لهم حق تشخيص العرف بعد أن أرجع المرجع إليه).

     التّصريح الثّاني: (وعدم توقيفية الشعائر عنده وأنها تابعة لكل ما يراه العرف مظهرا للحزن).

     التّصريح الثّالث: (والصريحة من المرجع الصافي في المطلوب والتي تبين بوضوح أن الشعائر تتبع ما يراه العرف مظهرا للحزن).

    واستند في تشكيل هذه الرّؤية إلى عدّة مواضع من كلام المرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه)، نذكرها تِباعاً، مع بيان مُراده (دام ظلّه) مقروناً بمناقشة استدلالات السّيد صاحب الدّعوى.

     نقد نتائج قراءة السّيد صاحب الدّعوى:

     أقول: ما أفاده السّيد صاحب الدّعوى في غير محلّه، وهو في غاية الإشكال؛ فإنّ كلمات المرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه) التي اُستند إليها قاصرة عن إثبات المطلوب، وبيان ذلك:
     أنّ المُستفاد مِن كلمات المرجع الصّافي (دام ظلّه) أنّ الضّابطة عنده في تحققّ عنوان الشّعائر مُركّبة، وليست بسيطة -كما يُصوِّرها السّيد صاحب الدّعوى-، وهي تتركّب مِن حيثيّتين:
 
     الأولى: العُرف.

     الثّانية: الموافقة الشّرعيّة.

     وبعبارة أخرى: أنّ الضّابط عنده (دام ظلّه) الذي يتعيّن على أساسه انطباق عنوان الشّعيرة على المصداق الخارجي هو: العُرف المتحيّث بقيد الموافقة الشّرعيّة، لا العُرف بمجرّده.

     وثمرة ذلك: أنّه مع تركّب الضّابطة على النّحو المذكور؛ ننقل الكلام إلى تلك الحيثيّة الشّرعيّة؛ لنقف على تحقّقها في العمل الخارجي، والتي لو لاها لامتنع تصحيح انطباق عنوان الشّعيرة على ذلك العمل، ومِن الواضح أنّ كلماته (دام ظلّه) لا تشتمل على تعيين هذه الحيثيّة، ومع إبهامها لا يُمكن أنْ يُقال أنّ التّشخيص راجع إلى المُكلّف؛ إذْ لا سبيل للمُكلّف أنْ يُمارس العمل الخارجي طِبقاً لتشخيصه العُرفي بمعزل عن مُراجعة كونه مطابقاً للشّرع أم لا، فإنّ هذا لا يتحصّل إلاّ بمُراجعة الفقيه الجامع للشّرائط، وحينئذ: لا يُمكن قبول دعوى: أنّ تشخيص الشّعيرة أو تصحيح انطباق عنوان الشّعيرة على العمل الخارجي موكول إلى المُكلّف، والذي بدوره يتولّى مهمّة تشخيص العُرف.

     وإليك كلماته (دام ظلّه) في المقام، وهي الكلمات نفسها التي استند إليها السّيد صاحب الدّعوى في تشييد دعواه، مع كون دلالتها بخلاف استفادته.

     الكلمة الأولى: قال (دام ظلّه) : ( بلكه مى‏توانيم بگوييم از مثل اين حديث مى‏فهميم كه: ارايه حال سوگوارى در مصيبت حضرت سيّد الشّهدا- عليه السّلام- به هر نحو مشروع- كه عند العرف حال سوگوارى باشد- مطلوب است و خواه به وسيله پوشيدن لباس سياه يا صيحه زدن در مجالس عزا يا ناله و گريه كردن، يا مرثيه خواندن، يا پابرهنه رفتن، يا صورت‏هاى مشروع و مقبول ديگر باشد، موجب اجر عظيم الهى در آخرت خواهد بود).[3]

     وقفة مع الكلمة الأولى:

     أقول:
 
     أوّلاً: ترجمة ما أفاده (دام ظلّه)

     وترجمتي لكلامه (دام ظلّه) : (ولكن نستطيع أنْ نقول: أنّنا نفهم من مِثل هذا الحديث أنّ أي وسيلة مشروعة عند العُرف لمظاهر العزاء في مصيبة حضرة سيدة الشّهداء (ع) فهي مطلوبة، سواء كان ذلك بلبس السّواد، أو الصّراخ في مجالس العزاء، أو العويل والبكاء، أو قراءة الرّثاء، أو المشي حافي القدمَيْن، أو الصّور الأخرى المشروعة والمقبولة، فهي موجبة للأجر الإلهي العظيم في الآخرة).

     ثانياً: حاصل دلالته

     علّق السّيد صاحب الدّعوى على هذا الكلام، بقوله: (وعدم توقيفية الشعائر عنده وأنها تابعة لكل ما يراه العرف مظهرا للحزن لم يقتصر على مافات...).

     أقول: كلام المرجع الصّافي (دام ظلّه) وإنْ كان يدلّ على عدم توقيفيّة الشّعائر بلا كلام، إلاّ أنّه مع ذلك لا يدل على أنّ الشّعائر تابعة (لكل) ما يراه العُرف مظهراً للعزاء كما أفاد السّيد صاحب الدّعوى، وبيان ذلك:

      أنّ حاصل دلالة كلام المرجع الصّافي (دام ظلّه) : أنّ العُرف وإنْ كان هو المناط في تعيين مصاديق الشّعائر، إلاّ أنّ ذلك ليس على سبيل الإطلاق؛ فإنّ قوله (دام ظلّه) : (به هر نحو مشروع)؛ تقييد للمنظور العُرفي، ومعناه: (بأي وسيلة مشروعة).

     بل وقوله (دام ظلّه): (يا صورت‏هاى مشروع و مقبول ديگر باشد)؛ بمثابة القَيْد أيضاً، على نحو القَيْد المذكور في العبارة الأولى، وإنْ كان أقل وضوحاً، ومعناه: (أو الصّور الأخرى المشروعة والمقبولة)؛ لأنّه بعد أنْ تعرّض لذكر جملة مِن المصاديق أحال على غيرها بالقيد المذكور، وهذا يكشف عن كون سائر المصاديق محكومة بإحراز تحقّق ذلك القَيْد.

     والمُتحصّل: أنّ العُرف بما هو هو لا يتكفّل بتعيين مصداق الشّعيرة للمُكلّف -بحسب مبنى المرجع الصّافي (دام ظلّه)- بل يُعتبر في كون العمل جامعاً لشرائط الشّرعيّة، وهذا مِمّا يعوزه فتوى مِن الفقيه الجامع للشّرائط، والتي على أساسها يكتسب العمل مشروعيّته.
 
    وتنبغي الإشارة هنا إلى أمرين:

     الأوّل: أنّ عبارة (به هر نحو مشروع)؛ حذفها السّيد صاحب الدّعوى مِن ترجمته العربيّة التي قدّمها للنّص الفارسي الآنف!  وقد عرفتَ أنّها حاسمة لبيان المُراد الجِدّي للمرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه).
    مُلاحظة: نقلنا ترجمته فيما تقدّم، ضِمن الفقرة (ب) مِن كلامه الذي نقلناه، تحت عنوان: ( الجهة الثّانية: وقفة مع إفادة بعض السّادة (سلّمه الله) )؛ فارجع إليها مرة أخرى إنْ شئت).

     الثّاني: أنّ أَخْذ القَيْد المذكور -رُبما- هو الأوفق بالواقع؛ فإنّ -مثلاً- شعيرة لبس السّواد، مع كونها مِن المصاديق العُرفيّة في إظهار الحُزن، بل وقد يُقال بأنّه مِن الشّعائر المُستفادة مِن النّصوص أيضاً، إلاّ أنّها تواجه عَقَبَة مِن جِهة إثبات حيازتها للمُطابقة الشّرعيّة، مِمّا يتطلّب تنقيحاً كُبرويّاً، وصُغرويّاً على نحو لا يقوى على مُعالجته العامِّي (غير المُتخصِّص)؛ ليخرج بالنّتيجة التي تؤسّس للوظيفة الشّرعيّة، وهو ما استدعى مِن أعاظم الفُقهاء بحثها موسّعاً على منابر البحث الفقهي، وفي مدوّناتهم الفقهيّة، كما صنع المُحقّق الكبير الميرزا جواد التّبريزي (قده)[4]، بل وللمرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه) نفسه كذلك بحث فقهي موسّع في المسألة، يُمكن مُطالعته في محلّه.[5]

     الكلمة الثّانية: قال (دام ظلّه) : (و امّا در زمان ما نسبت به گريه و اقامه مراسم عزادارى و لطمه‏ زدن بر صورت و انجام هر عملى كه نشان‏گر حزن است- البته به‏ گونه‏اى كه با عنوان شعائر منافات نداشته باشد- مطلوب مى‏باشد).[6]

وقفة مع الكلمة الثّانية:

     أقول:

    أوّلاً: ترجمة ما أفاده (دام ظلّه)

     وترجمتي لكلامه (دام ظلّه) : (وأمّا في زماننا؛ فإنّ البكاء، وإقامة مراسم العزاء، ولطم الوجه، وممارسة أيّ عمل يُبرز الحُزن، طبعاً بنحو لا يتنافى مع عنوان الشّعائر- فهو مطلوب).

     ثانياً: حاصل دلالته

     استدل السّيد صاحب الدّعوى بهذه الكلمات، ولم يُبيّن وجه الاستدلال، ولم يُترجم كلمات المرجع الصّافي (دام ظلّه)، بل اكتفى بذكر موضع الإحالة مقروناً بصورة لصفحة الكتاب.
     واكتفى بقوله: (وعدم توقيفية الشعائر عنده وأنها تابعة لكل ما يراه العرف مظهرا للحزن لم يقتصر على ما فات بل ذكره أيضا في معارف دين ج٣ ص١٢٧ والشعائر الحسينية ص١١٣ وهذه صور الوثائق الواضحة والصريحة من المرجع الصافي في المطلوب والتي تبين بوضوح أن الشعائر تتبع ما يراه العرف مظهرا للحزن...).

     ويرد عليه: أنّ الاستدلال بهذه الكلمات مِن قبيل المُصادرة على المطلوب؛ إذْ أنّ المرجع الصّافي (دام ظلّه) اشترط مُطابقة أي ممارسة مع عنوان الشّعائر؛ والمفروض أنّنا لم نفرغ بعدُ مِن تعيين جهة انطباق عنوان الشّعائر؛ فإنّه وإنْ قال: (أيّ عمل يُبرز الحُزن)، إلاّ أنّه استدرك في ذيل كلامه باشتراط الانسجام مع عنوان الشّعائر، وهذا ما لا يكاد يخفى!

     وصفوة القَوْل: أنّ هذه الكلمات لا تجدي في إثبات المُدّعى، والاستدلال بها لا يرجع إلى محصّل!

   الكلمة الثّالثة: جاء في كتاب (الشّعائر الحُسينيّة) : (نود معرفة رأيكم بالشعائر الحسينية بجميع أقسامها (اللطم، البكاء، الضرب بالزنجير، التطبير، موكب المشاعل، المشي على الجمر) ما هو رأيكم الشريف؟

     ج: الشعائر الحسينية لها أحكام خاصة والقيام بالأُمور المذكورة في السؤال إن لم تكن ضارة فلا بأس بها).انتهى.[7]

     أقول: استند السّيد صاحب الدّعوى إلى هذا الجواب في بناء دعواه، فقد وضع صورة له، مُعلّقاً عليها بما مرّ مِن قوله: (وهذه صور الوثائق الواضحة والصريحة من المرجع الصافي في المطلوب والتي تبين بوضوح أن الشعائر تتبع ما يراه العرف مظهرا للحزن...).انتهى.

    وفيه: أنّ جوابه (دام ظلّه) ليس فيه دلالة على أنّ الممارسات المذكورة مِمّا ينطبق عليها عنوان (الشّعائر) بحسب رأيه الشّريف، وإنْ عبّر السّائل عنها بهذا العنوان، إلاّ أنّ هذا شيء آخر غير موافقة المُجيب على ذلك.

    والحاصل: أنّ جوابه (دام ظلّه) اشتمل على أمرين:

     الأوّل: الإشارة إلى اختصاص الشّعائر بأحكام شرعيّة، وهو مُشعر -إنْ لم يكن ظاهراً- في أنّه (دام ظلّه) لا يرى المذكورات داخلة ضِمن الشّعائر بالجُملة، ولو لم يكن الأمر على أحد التّقديرين؛ فكلامه (دام ظلّه) لا يخلو مِن إجمال، مِن جهة دلالته على المطلوب، والقدر المُتيقّن هو: الحُكم بالجواز، وليس أزيد مِن ذلك، وهو ما سنذكره في النّقطة الآتية.

     الثّاني: الحُكم بجواز المذكورات، وهو أعمّ من كونها مُندرجة ضِمن عنوان الشّعائر، كما لا يخفى، فلا مجال لانتزاع موافقة المُجيب على كونها مِن مصاديق الشّعائر.
    وكلامه (دام ظلّه) عريّ -ولو بمستوى الإشارة- عن أي ربط بين عنوان الشّعائر، وكون المذكورات من مصاديق ذلك العنوان لكونها مُستفادة مِمّا يقتضيه العُرف.

     والحاصل: أنّ كلام المرجع الصّافي (دام ظلّه) أجنبي عن المُدّعى، والاستدلال به لا يخلو مِن إشكال.

     الكلمة الرّابعة: جاء في كتاب (الشّعائر الحُسينيّة) : (ما وقفت على نص خاص دال على خصوصية التشرّف ماشياً إلّا أنّه يمكن القول برجحان ذلك وترتّب الثواب عليه، لأنّ ذلك يعدّ عند العرف تعظيماً للمزور، كما يمكن استفادة ذلك مما دلّ على رجحان المشي إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة مولانا سيّد الشهداء (ع)، لأنّ الملاك والمناط في كلّ ذلك تعظيم الشعائر وتكريم المزور وأداء التواضع والأدب، وإن كان ذلك في بعض مصاديقه أتمّ وآكد).[8]

     أقول: استند السّيد صاحب الدّعوى إلى هذا الجواب أيضاً في بناء دعواه، بعد أنْ وضع صورة له، مُعلّقاً عليها بما مرّ مِن قوله: (وهذه صور الوثائق الواضحة والصريحة من المرجع الصافي في المطلوب والتي تبين بوضوح أن الشعائر تتبع ما يراه العرف مظهرا للحزن...).انتهى.

    والجواب: أنّه ينبغي أنْ يكون وجه الاستدلال صِناعيّاً بالبيان الآتي:

    أنّه (دام ظلّه) أناط بالتّعظيم العُرفي، بمُقتضى التّعليل في قوله: (لأنّ ذلك يعدّ عند العُرف تعظيماً للمزور)، وهو بهذا ظاهر بكون الملاك هو ما يثبت لدى العُرف، بلا ضمّ شيء زائد إليه، كالمطابقة الشّرعيّة، على غِرار ما قيّد به (دام ظلّه) سائر فتاواه وكلماته في أمثال المقام.

     إلاّ أنّ هذا في غير محلّه؛ لكونه مبني على انعقاد الإطلاق في التّعليل المذكور، أعني: (ما يُعدّ لدى العُرف تعظيماً)، فيشمل بذلك ما كان حائزاً على المُطابقة الشّرعيّة، وما كان غير ذلك، وانعقاد الإطلاق المزعوم غير حاصل؛ لكونه (دام ظلّه) ليس في مقام البيان مِن هذه الجِهة، ويُنبّه على مُراده الجِدّي سائر كلماته التي تفيد أنّ العِبرة بالمُطابقة الشّرعيّة.

     كلمات أخرى للمرجع الشّيخ الصّافي:
    ولا بأس بأنْ أختم بكلمات أخرى للمرجع الشّيخ الصّافي (دام ظلّه) تعزّز ما قُلناه، مع أنّ المقدار المُتقدِّم مِن كلماته المنقولة فيه كفاية:

     قال (دام ظلّه) : (وإنّي لا يكاد ينقضي عجبي ممّن يطلب منّي ومن غيري تسجيل استحباب البكاء، والتعزية، والإبكاء، وإحياء الشعائر الحسينية، بكل شكل ونوع لم يكن منهياً عنه في الشرع، وقد  أفتى به الأساطين، وسعوا في ترغيب الناس إليه، وأ لّفوا فيه كتباً مفردة. فقلَّما تجد كثرة الروايات في موضوع من الموضوعات مثل ما جاء في البكاء على الحسين عليه السلام، والتباكي، والإبكاء عليه، وإنشاء الشعر وإنشاده في مصائبه، وإظهار الحزن عليه بكل نحو مشروع).[9]

     أقول: وقوله (دام ظلّه) : (وإحياء الشعائر الحسينية، بكل شكل ونوع لم يكن منهياً عنه في الشرع)، وكذا قوله :( وإظهار الحزن عليه بكل نحو مشروع)؛ أوضح مِن أنْ يُبيّن، وهو يأتي في سياق تأكيد ما ذكرناه؛ إذْ الوقوف على النّهي الشّرعي؛ يعوزه الرّجوع إلى الفقيه الجامع للشّرائط في الجُملة؛ فإنّه مِمّا لا يخرج عن عُهدته، وصور المُخالفة الشّرعيّة مُتعدّدة مِن جِهة استبطان المُمارسة العُرفيّة للمحذور الشّرعي.

    بقي شيء:

    وهو أنْ نُشير إلى أنّ السّيد صاحب الدّعوى قد وقع في خلط واضح بين أمرين:

    الأوّل: أنّ الشّعائر غير توقيفيّة، وكونها راجعة إلى العُرف.

    الثّاني: أنّ كونها راجعة إلى العُرف؛ مسوّغ -في نفسه- لإيعاز التّشخيص إلى المُكلّف.

       ولم يتفطّن إلى أنّ عدم توقيفيّة الشّعائر، وكون تحديدها يتمّ بحسب المنظور العُرفي لا يُلازم كون التّشخيص بيد المُكلّف، بدعوى أنّ الفقيه ألقى إليه الضّابطة الكُلّية؛ التي هي الرّجوع إلى العُرف؛ إذْ تبقى مرتبة تالية للتّشخيص العُرفي، وهي اختبار وفاء العمل بشرط الموافقة الشّرعيّة، وإحراز مواءمته لها.
 
     وقد عرفتَ أنّ المُستفاد مِن مجموع كلمات المرجع الصّافي (دام ظلّه) هو الأمر الأوّل فحَسْب، وأمّا الثّاني؛ فإنّ كلماته (دام ظلّه) تأباه.
   

 
     وآخر دعوانا أنْ الحَمْد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على أشرف بريّته محمّد آله الطّيبين الطّاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

جابر جوير
قُم المُقدّسة



[1]  مُرفق صورة الاستفتاء مع جوابه.

[3]  معارف دين للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ج1 ص243 ، ط. : مكتب نشر آثار حضرة آية الله العظمى الصافى الگلپايگاني (دام ظلّه‏)، قُم‏ المُقدّسة.
وذكر هذا الكلام نفسه أيضاً في كتابه الآخر: گفتمان عاشورايى للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ص 89، ط. مكتب آية الله لطف الله الصافي الگلپايگاني‏، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1434 هـ.
[4]  ثُمّ قُرّر وطُبع هذا البحث بعد ذلك في: رسالة مُختصرة في لبس السّواد للمُحقق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ، ط. دار الصّديقة الشّهيدة (ع)، إيران-قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1421 هـ.، وهي مطبوعة أيضاً ضِمن كتاب: الأنوار الإلهية في المسائل العقائديّة للمُحقق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ص55-70، ط. دار الصّديقة الشّهيدة (ع)، إيران-قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1422 هـ.
[5]  الشّعائر الحُسينيّة للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ص40-75، سؤال:22، ط. مركز نشر وتوزيع الآثار العِلميّه في مكتب سماحة آية العُظمى الصّافي الگلپايگاني‏ (مُدّ  ظلّه الشّريف)، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1428 هـ.
وبحثه بالفارسيّة أيضاً في : معارف دين ج1 ص239-243 ، ط. : مكتب نشر آثار حضرة آية الله العظمى الصافى الگلپايگاني (دام ظلّه‏)، قُم‏ المُقدّسة، گفتمان عاشورايى ص83- 89، ط. مركز تنظيم و نشر آثار حضرة آية الله العظمى الشّيخ الصّافي، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1430 هـ.
[6]  معارف دين للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ج3 ص123 ، ط. : مكتب نشر آثار حضرة آية الله العظمى الصافى الگلپايگاني (دام ظلّه‏)، قُم‏ المُقدّسة.
[7]  الشّعائر الحُسينيّة للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ص106-107 ، سؤال:22، ط. مركز نشر وتوزيع الآثار العِلميّه في مكتب سماحة آية العُظمى الصّافي الگلپايگاني‏ (مُدّ  ظلّه الشّريف)، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1428 هـ.
[8]  الشّعائر الحُسينيّة للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ص113، سؤال:32 ، ط. مركز نشر وتوزيع الآثار العِلميّه في مكتب سماحة آية العُظمى الصّافي الگلپايگاني‏ (مُدّ  ظلّه الشّريف)، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1428 هـ.
 [9] لمحات فى الكتاب والحديث و المذهب للمُحقّق الشّيخ الصّافي الگلپايگاني‏ (حفظه الله تعالى) ج‏1 ص 351 ، ط. مركز تنظيم و نشر آثار حضرة آية الله العظمى الشّيخ الصّافي، قُم المُقدّسة، الطّبعة الأولى: 1434 هـ.