الجمعة، 28 سبتمبر 2012

(المناقشة الثالثة)

هل اتهم السيد الخوئي (قده) أعلام الطائفة بعدم التحصيل العلمي؟!
مناقشة ثالثة لما أفاده أحد أساتذة الحوزة العلميّة في قم المقدّسة
بقلم: الشيخ جابر جوير
نشرت (قناة الحيدري تيوب/AlhaydariTube) في موقع اليوتيوب، بتاريخ 27/9/2012م؛ مقطعاً بعنوان : (رد السيد الحيدري على مغالطات البعض حول السيد الخوئي)، قال فيه المُتحِّث ما هذا نصّه بحروفه (ضمن الخمسين ثانية الأولى) : (أمس واحد متصل بيّه نص ساعة مولانا، عنده إشكال، سيدنا ليش إنت قلت: ليس له ذوق فقهي أو لم يذق من الفقه شيئاً، طبّقته على مَن؟، على السيد الخوئي، قلت: له يا عزيزي، بيني وبين الله، هذا أسلوب علمي، كل علماء مستعمليه، هذا مو فد شيء جديد، السيد الخوئي هم يقول عن الشيخ الكليني والطوسي والصدوق وكل الذين قالوا بصحة روايات الكتب الأربعة، يقول: هؤلاء ليس (له) لكلامهم معنى مُحصَّل، أصلاً هذوله مو مُحصِّلين هذوله، عجيب! الشيخ الكليني مو محصّل؟!، يقول: لا هذي مو مو هذي مو شتيمة هذي، وإنّما ماذا أريد أقول: هذا القول ماذا؟ لا قيمة علمية له).
وهو مقطع مأخوذ من درس بحث الخارج الذي اُلقي في مدينة قم المقدّسة، منشور في الموقع الرسمي بعنوان: الرؤية الفقهية عند العلامة الحيدري (7)، الدقيقة 23:52 وما بعدها.
الرابط:

أقول: حاصل ما أراد أنْ يُثبته المُتحدِّث هو وجود كُبرى مفادها أنّ (الأسلوب الذي اُستنكر عليه) هو أسلوب علمي مُمَحَّض بالعلميّة؛ وأنّ هذا الأسلوب يستبطن معنىً آخر غير المعنى الظاهر منه (أي معنى الانتقاص من الأشخاص)، وهذا المعنى المُسْتَبْطن هو انتقاص نفس الفكرة أو الرأي، والحُكم بعدم صحته أو صحتها، مع تمام التحفّظ على شأن صاحب الفكرة أو الرأي، ثم تمسّك المُتحدِّث بما حكاه عن المحقق السيد الخوئي (قده) كمصداق للكبرى التي ذكرها، وهذا المصداق بمثابة النقض على الإشكال المُثار على هذا الأسلوب، وما أفاده المُتحدِّث ينحل إلى دعويين في الواقع:
الأوّلى: كون ذلك الأسلوب المُستنكر أسلوباً علمياً، وهو مُستعمل من قبل (كل) العلماء.
الثانية: تفسيره لظاهر عبارة المُحقق السيد الخوئي (قده) بأنّ الأعلام المذكورين (الكليني والطوسي والصدوق وغيرهم) غير مُحصِّلين!

وما أفاده قابل للمناقشة:
أولاً:
1- أمّا الدعوى الأولى؛ فعُهْدَتُها على مُدَّعيها، إذْ لم نجد (كل) العُلماء، بل ولا حتى أكثرهم انتقصوا من عيون فقهاء الطائفة، وأعاظم مراجعها! ، لمجرد الاختلاف بالرأي العلمي، بدعوى أنّ المُنْتَقِص (بالكسر) يُريد مُحاكمة رأي المُنْتَقَص (بالفتح) والرد عليه، وليس قصده أنْ يْنتقص أو ينال منه شخصياً.
2- وأمّا دعوى كون هذا الأسلوب من قبيل الأساليب العلميّة، ففيها:
أ- أنّ هذه دعوى غير مُبرهن عليها (ومحاولة الاستدلال عليها - كما فعل المُتحدِّث في نفس المقطع الصوتي-من كلمات القرآن المشتملة على ما ظاهره التنقيص؛ محاولة غير تامّة، وأجنبية جداً عن الكُبرى المزعومة، لأنّ القرآن عندما يُعبّر بهذه التعبيرات؛ فإنّما يُعبّر بها عمّن يستحقّها فعلاً، لا أنّه يحترم شخوص من يُعبّر عنهم بذلك، ويريد بهذا التعبير الانتقاص من فكرة هؤلاء فقط!، والقرآن بين يديك فانظر فيه؛ تقف على ما ذكرناه!).
ب- بل هذا على خلاف سيرة العُقلاء وبنائهم، فإنهم يفرّقون في خطاباتهم بين مقام مناقشة الفكرة والرأي، ومقام الانتقاص من صاحبهما.
ج- مُضافاً إلى أنّنا لم نظفر بقول لأحد العلماء من المُتقدِّمين والمتأخّرين يصف فيه (أسلوب تنقيص شأن الأعاظم) بالأسلوب العلمي!
د- ناهيك عن كون المتفاهم في المحاورات العُرفية هو إرادة الظاهر من الكلام، إلاّ ما خرج بالدليل المُعتبر، وأين هذا مما نحن فيه؟
ثانياً:
تفسير ظاهر العبارة المنسوبة للمحقق السيد الخوئي (قده) بالنحو المذكور غريب جداً؛ فإنّ المُتعارف عليه في أروقة الحوزة وأوساطها في هذا الزمان؛ أنّ معنى قولهم (فلان غير مُحصِّل) ؛ أي ليس له تحصيل علمي مُعتبر، أو غير مُتوفِّر على رصيد ودراسة في العلوم الدينية، وحمل كلام المحقق السيد الخوئي (قده) على هذا المعنى في غير محلّه، ولا مجال للأخذ به، وهو غريب -كما قلنا- لا سيّما من مثله، بيان ذلك:
أنّ عبارة ( (كلام فلان) لا يرجع إلى معنى مُحصَّل )، من العبارات المتداولة، والمستعملة على ألسنة المحققين والفقهاء، وهي بمثابة قولنا: ( (كلام فلان) لا يرجع إلى معنى صحيح أو معتبر يتم تحصيله)، وتُستعمل في موارد رفض المحقق أو الفقيه للرأي العلمي، والاعتراض عليه أو الحُكم عليه بعدم الاعتبار، مع قطع النظر عن صاحب الرأي، فهي غير ناظرة إليه أصلاً، في حين نجد المُتحدّث فسّر ظاهرها بمعنى: أنّ صاحب الرأي العلمي هو نفسه من غير المُحصٍّلين!! ، مع أنّ موضوع عدم التحصيل في العبارة هو الرأي لا صاحبه، مُضافاً إلى أنّه من الواضح جداً أنّ عدم صحّة الرأي لا تُلازم عدم وجود تحصيل علمي لصاحب الرأي.
والحاصل: أنّ ما أفاده مما لا يُمكن المساعدة عليه بوجه، بل لا يخلو من اضطراب بياني، ومحاولة تطبيقه على مورد النزاع محاولة غير تامّة.
إشكال ودفعه:
فإنْ قيل: أنّ المُراد من تفسير المتحدِّث ليس المعنى المُتعارف في الأوساط الحوزوية في (عبارة فلان غير محصِّل)، وإنّما مُراده غير مُحصِّل للمعنى الصحيح في خصوص المسألة التي يبحثها الفقيه، وتكون مورداً للاختلاف والأخذ والرد، فيحكم فقيه ما بعدم صحة رأي الآخر فيعبّر بهذه العبارة بداعي الإشارة إلى: عدم تحصيل صاحب الرأي الخاطئ للمعنى الصحيح.
فإنّه يُقال: وإنْ كان هذا التوجيه لا يخلو من تكلّف، إلاّ أنّه مع ذلك لا سبيل للإلتزام به فيما نحن فيه، بل هو خروج عن محل البحث، لأنّ المفروض أنّ المُتحدِّث في مقام النقض على من اعترض عليه في تطبيق عبارة صاحب الجواهر (قده) على المحقق السيد الخوئي (قده)، والمفضية إلى اتهام الأخير بكونه لم يذق طعم الفقه!، ومن الواضح أنّ هذا النقض غير وارد على محلِّ الاعتراض، إذْ النقض المذكور أخصّ من المُدّعي، حيث أقصى ما تدل عليه العبارة بهذا التفسير الأخير هو أنها مساوقة لمعنى (أخطأ فلان)، فعدم تحصيل المعنى الصحيح في المسألة الكذائية مساوق لمعنى الخطأ في هذه المسألة، وأين هذا من سلب الفقاهة أو كون صاحب المسألة لم يذق من طعم الفقه شيئاً؟! أو نحو ذلك من الطعون والتنقيص في صاحب الرأي الخاطئ بالجملة؟! اللهّم إلاّ إذا كان تخطئة الإنسان غير المعصوم في رأي ما؛ معدودة عند العُقلاء والمُتفاهم العُرفي من جملة الطعن به والتنقيص من شأنه، وكون ذلك بقوة إسقاط علميته والنيل منها، وهو كما ترى!
وأمّا كون ذلك بمثابة الخروج عن محلِّ البحث، فإنّ محلّ النزاع ومثار البحث هو التعبير بهذه التعبيرات (القاسية!) والمُجحفة بحق أعاظم الفقهاء وأعلام الطائفة؛ التي من قبيل ما تم تطبيقه (وتعرّضنا له مُفصّلاً في المناقشة الثانية، فراجعها إنْ شئت) في حق المحقق السيد الخوئي (قده) الذي هو زعيم الحوزة العلمية في وقته، وأستاذ الفقهاء والمُجتهدين، بل وتطبيقه على بعض تلامذته الفقهاء والمراجع العظام الذين يتبنّون مسلكه في مسألة ولاية الفقيه ، وليس مثار البحث وجهته هو تخطئة المُخطئ من الفقهاء، كيف وهذا -أي تخطئة المخطئ- هو دأب العلماء والمحققين، بل وسائر العقلاء، وتخطأة غير المعصوم لا توجب الطعن بشخص وعلم ومقام المُخطئ بلا أدنى تأمّل عند الجميع.
والحاصل: أنّ الالتزام بهذا التخريج هو خروج عن محلِّ البحث، ويجعل من كلام المُتحدِّث كلاماً أجنبياً عن حريم الإشكال المُثار عليه، فلا مناص من أنْ يكون مقصود المُتكلّم هو المعنى الأوّل، وهو (عدم التحصيل العلمي)، وحينئذ ترد عليه الإشكالات التي ذكرناها فيما تقدّم.
خاتمة: في ذكر بعض نماذج من عبارات المحقق السيد الخوئي (قده) في مناقشة فقهاء وأعلام الطائفة:
الأول: في حقِّ شيخ الطائفة الطوسي (قده) ، قال المحقق السيد الخوئي (قده) في معجم رجال الحديث ج4 ص164 برقم: 1602 في مناقشة شيخ الطائفة: ( ولكن من المُطمأنّ به : أنّه سهو من قلمه الشريف ، والله العالم ).
الثاني: في حقِّ العلامة الحلي (قده)، قال : المعجم ج16ص142 برقم: 10335 : (وكلمة (حمدويه) في كلام العلامة - أعلى الله مقامه - من سهو قلمه الشريف).
أقول: ونحو هذه التعبيرات ونظائرها شائعة وكثيرة في كلماته (قده)، وليس مقصودنا الاستقصاء والتتبع التام في آثاره (قده)، ولاحظ أنّه أرجع السهو والخطأ إلى القلم، وليس إلى صاحب القلم نفسه، مع أنّ الأولى بالخطأ هو صاحب القلم، وليس هذا إلاّ من كمال تأدّب ورُقي المحقق السيد الخوئي (قده) مع أعلام الطائفة (أعلى الله كلمتهم الشريفة)، ورضوان الله تعالى على هذا المحُقق العظيم، وقدّس الله روحه الشريفة، وعطّر الله ثراه.

وصلِّ اللهم على محمد وآله الطاهرين، وآخر دعونا أنْ الحمد لله رب العالمين.
جابر جوير
الجمعة، 12 من ذي القعدة 1433 ، الموافق 28 سبتمبر 2012.

هناك تعليق واحد: