الخميس، 13 نوفمبر 2014

إقامة الدّليل على

بُطلان دعاوى البصري ابن (گاطع) المدعو (أحمد بن إسماعيل)

هل للإمام الحُجَّة (ع) ذُريّة ؟! 

(الحلقة الأولى)

بقلم: الشّيخ جابر جوير






  

     الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المُرسلين، وخاتمِ النّبيين، وأشرف البريّة أجمعين؛ محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم مِن الأوّلين والآخرين، حتّى قيام يوم الدّين، إله الحقّ آمين.

     وبعد؛ فقد نسب المدعو (أحمد بن إسماعيل بن گاطع البصري) نفسه إلى الإمام الحُجّة (ع)؛ فادّعى أنّه مِن ذُرّيّته، وترتكز هذه الدّعوى على عدّة أدلّة ذكرها أنصاره وتابعيه، وبإمضاء، واعتماد مِنه شخصيّاً[1] على قِسمَيْن مِن الأدلّة[2]:

     القِسم الأوّل: الدّليل غير المُباشر

     أوّلاً: نقل نصّ كلماتهم

    ألف: قال: (فالزواج والذرية من سنن الله تعالى في خلقه، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين وأكد الله تعالى ورسوله على استحبابه الأكيد. فهل هؤلاء الذين ينفون الزواج والذرية عن الإمام المهدي (ع) أولى بتطبيق الشريعة من الإمام المهدي (ع) ).[3]

    ب: وقال: (فلماذا ينفون الزواج والذرية عنه (ع) وهو الأولى بتطبيق سنة الله تعالى، والتي من أهمها الزواج والذرية الصالحة).[4]

     ج: وقال: (فلا أدري لماذا كل هذا الميل لنفي الذرية عن الإمام المهدي (ع)، والأصل في الخلق وجودها، وقد أكد الشارع على استحبابها الأكيد).[5]انتهى.

    ثانياً: مُناقشة الدّليل

    ويقع الكلام في مناقشة ما تُمسّك به في إثبات الدّعوى مِن جهات ثلاث:

    الجِهة الأولى: تجذير الدّليل

     ينبغي أنْ نُشير في مطلع البَحث إلى أنّ ما ذكره صاحب الدّعوى ليس هو مِن ابتكاراته، كما ما قد يستوحيه القارئ؛ فإنّ أوّل مَن استدل بذلك -بحسب ما يقود إليه التّتبع- هو الميرزا النّوري الطّبرسي (قده) في كتابه (النّجم الثّاقب).
     قال (قده) : (وكيف يترك مِثل هذه السّنة العظيمة لجدّه الأكرم (ص)، التي حثّ عليها بذلك الشّكل مِن التّرغيب، والحثّ في فِعلها، والتّهديد والتّخويف مِن تركها؟ وأجدر مَن يأخذ بسنّة النّبي (ص) هو إمام العَصْر)[6].
    والمُستَدِل رَجعَ إلى كتاب (النّجم الثّاقب) كما يظهر مِن كلامه، حيث قال في مقام ذِكر الأدلّة الرّوائيّة على وجود ذريّة للقائم (ع) : (ذكر الميرزا النوري في النجم الثاقب إثنى عشر دليلاً على وجود الذرية للإمام المهدي (ع)، وسوف نذكرها جميعاً مع إضافة بقية الأدلة التي وفقنا الله تعالى إلى معرفتها).[7]

        أقول: وبذلك لا يبعُد أنّ الدّليل قد اُقتبس مِنه (قده)، بلا إيعاز لصاحبه.

    هذا، وقد طرح الشّهيد الصّدر الثّاني (قده) في كتابه (تاريخ الغَيْبة الكُبرى) نفس الدّعوى، وليس ببعيد أيضاً أنّه (قده) عَمَدَ إلى اقتباس ذلك مِن الميرزا النّوري (قده)؛ حيث نقل عنه (قده) روايات وجود الوَلد للقائم (ع)، بعد أنّ قرّر الدّعوى المذكورة.
    قال (قده): (الأخبار الدّالة على زواجه ووجود الذّريّة له في غيْبته الكبرى. وهي ثلاث روايات: الأولى: ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب...)[8].
        وإليك نصّ كلام الشّهيد الصّدر الثّاني (قده) في تقرير الدّعوى : (وإذا أمكن زواجه، أمكن القول بتحققه ، وإن الإمام المهدي (ع) متزوج في غيبته الكبرى بالفعل. وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه، والمهدي أولى من يتبع السنة الإسلامية. وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما أمكن، والتزمنا بعصمة المهدي (ع) كما هو الصحيح. فيتعين أن يكون متزوجاً ، بعد أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه. وإذا سرنا مع هذا التصور ، أمكن أن نتصور له في كل جيل ، أو في أكثر الأجيال ذرية متجددة تتكاثر بمرور الزمن)[9].انتهى.
    والظّاهر أنّ المُستدِل رجع إلى ما كتبه الشّهيد الصّدر (قده) أيضاً، فقد ذكر في آخر بحثه، بعد أنْ أتمّه وفرغ مِن استدلاله، قائلاً : (ويحسن بنا الآن أن نعرج على الموسوعة المهدية لنطلع على رأي السيد الصدر في هذا الموضوع).[10].

    أقول: وهذا يُعزِّز ما استقربناه مِن كونه اقتبس الدّليل مِن غيره بلا إشارة إلى صاحبه، سواء كان مأخوذاً مِن الميرزا النّوري (قده)، أو الشّهيد الصّدر الثّاني (قده).

    هذا، وثمّة ثالث تلا الأوّلَيْن (قدهما) في اُطروحتهما، وهو السّيد جعفر عَلَم الهُدى؛ فإنّ له كلاماً قريباً مِنه، حيث أجاب على سؤال في (شبكة رافد) إليك نصّه ملحوقاً بالجواب:
    (السؤال : هل أنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) متزوج طوال الغيبة؟ وإذا كان متزوجاً هل لديه أطفال؟ وإذا كان له أولاداً وزوجة هل يعلمون حقيقته؟
     الجواب من سماحة السيّد جعفر علم الهدى: يظهر من بعض الروايات والأدعية والزيارات أنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) له أولاد وذرّية ، ومن الطبيعي أن يتزوج ولا يترك سنّة جدّه رسول الله التي أكّد عليها فقال : "النكاح سنّتي ، فمَن رغب عن سنّتي فليس منّي"، لكن كما لا نعرف عن موضعه ، ومحلّ سكناه ، وموطنه ، كذلك لا نعرفه تفاصيل حالاته ، وحالات أولاده وذراريه)[11].   

    أقول: وكيفما كان؛ فإنّ الدّليل المذكور بجميع صياغاته غير تام في نفسه، كما سيوافيك في محلّه إنْ شاء الله تعالى.


     الجهة الثّانية: القصور الفنّي في صياغة الدّليل، بحسب ما تقتضيه الصِّناعة

    ينحل مجموع ما ذكره صاحب الدّعوى إلى عدّة مُقدِّمات يخلص مِن خلالها إلى النّتيجة التي يتوخّاها، ويُمكن صياغة دليله، مع بيان ما يُمكن أنْ يرد عليه مِن إشكالات بالصّورة الآتية:

     المُقدّمة الأولى: تقرّر في محلِّه استحباب النِّكاح في الشّريعة المُقدّسة استحباباً أكيداً.
     المُقدّمة الثّانيّة: كما ثبت أيضاً استحباب الانجاب وطلب الذّريّة في الشّريعة المُقدَّسة.
    المُقدّمة الثّالثة: أنّ المعصوم (ع) (وهو الحُجة (ع) في المقام) أولى مِن غيره بفعل المُستحَبّ.
     المُقدّمة الرّابعة: أنّ الأصل في الذّريّة وجودها في الخَلْق.
     النَّتيجة: يثبت بذلك ضرورة وجود الذّريّة للإمام الحُجّة (ع).

     وعلى ضوء ذلك: يُمكن أنْ يُلاحظ على ما ذكره صاحب الدّعوى: أنّ استدلاله جاء مُبعثراً، وليس على طِبق ما تقتضيه أصول وقواعد البحث العِلمي؛ إذْ استدلّ ابتداءً مُجرّداً عن المُقدِّمة الرّابعة، ثم لمّا التفت -بحسب ما يظهر لنا- إلى ضرورة ترميم ما اعترى الدّليل، وردم ثغرته؛ حاول الاستدراك والتّتميم، وكل ذلك يكشف عن الرِّكة والارتباك على مستوى البحث ومستوى الصّياغة.

    الجِهة الثّالثة: نقد الدّليل وبيان قصوره عن إثبات المطلوب

    اتّضح مِن خِلال المُقدّمات التي رتّبناها آنفاً أنّ دليل الدّعوى ينحل إلى إلى أمور أربعة، وهي:
    الأمر الأوّل: ضرورة التزام المعصوم بالمُستحبّات؛ لكونه أولى مِن غيره بها.
    الأمر الثّاني: استحباب الزّواج.
     الأمر الثّالث: استحباب إيجاد الذّريّة.
    الأمر الرّابع: أنّ الأصل في الخَلْق وجود الذُّريّة.

     وكل ذلك ليس يتمّ منه شيء، ويتّضح برهانه في المُناقشات الآتية:

    أوّلاً: مُناقشة الأمر الأوّل

    فنقول: أنّ كُبرى التزام المعصوم (ع) بالمُستحبّ على سبيل الضّرورة والاطّراد غير تامّة في نفسها، والجواب عنها نقضاً وحلاًّ:

    أمّا نقضاً: فقد ثبت في محلّه أنّ المعصوم (ع) ترك بعض المُستحبّات، ومِن نماذج ذلك:

    أوّلاً: ترك الأذان في الصّلاة مع كونه مُستحبّاً

    ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه (ع): (أنّه كان إذا صلّى وَحْدَه في البيْت أقام إقامة ولم يؤذّن). [12]

     ثانياً: ترك توفير الشّعر لحجّ التّمتّع مع كونه مُستحبّاً

     ففي الصّحيح عن أبي عبدالله (ع): (فإنّ الحُسين بن علي (صلوات الله عليهما) خرج مُعتمراً، فمرض في الطّريق، فبلغ علياً (ع) ذلك، وهو في المدينة، فخرج في طلبه، فأدركه َه بالسُّقْيَا[13]، وهو مريض بها، فقال: يا بني ما تشتكي؟ فقال: أشتكي رأسي، فدعا عليٌّ (ع) بِبَدَنَةٍ، فنحرها، وحلق رأسه، وردّه إلى المدينة، فلمّا برء مِن وجعه اعتمر).[14]  
 
    وأمّا حلاًّ: أنّه لا محذور في أنّ المعصوم (ع) رُبما يترك المُستحب في الجُملة بمُسوِّغ شرعي يقتضيه، والاعتراض على ذلك بمحض الأولويّة؛ لم يُعرف له وجه صحيح.

    ولذا ذهب جمع مِن الفقهاء إلى جواز ترك الإمام (ع) للمُستحَبّ أحياناً، وإنّما المحذور في الدّوام على تركه:
    قال الشّهيد الأوّل في (الذّكرى) : (لا محذور في إخلال الإمام بالمُستحَبّ أحياناً؛ إذْ المحذور إنّما هو الهجران للمُستحبّ). [15]

    وذهب بعضهم إلى جواز تركه لغرض صحيح:
    قال المُحقّق الوحيد البهبهاني (قده) : (أنّ الإمام ربما كان يترك المُستَحبّ لغرض).[16]
    وقال المُحقّق الدّاماد (قده) : (إذْ يُحتمل التّرك في مورد بالخصوص تعليماً للجواز، أو لغير ذلك).[17]
    وقال عن دعوى (أنّ النّبي (ص)، وكذا الوصي (ع) لا يترك المُستَحبّ) : (ولكنّها بمعزل عن التّحقيق. نعم، له وجه لو كان على نهج الاستمرار، حيث لا يستقرّ دأبهم على ترك راجح، و أمّا تركه أحياناً، فلا)[18].
    وقال المُحقّق السّيد الشّاهرودي (قده) : (أنّه لا دليل على أنّه (ع) لا يترك المُستحَبّ)[19].
    وقال المُحقّق السّيد السبزواري (قده) : (كون شي‌ء مندوبا لا يدل على إتيان الإمام (ع) به؛ إذْ يُمكن تركه له لمصلحة مقتضية لذلك)[20].
    وقال المُحقّق الميرزا التّبريزي (قده) : (ترك المُستحَب أحياناً لغرض لا ينافي شأن الإمام (ع).[21]

    ثانياً: مُناقشة الأمر الثّاني

    ويُمكن أنْ يُجاب عنه بأحد وجهين:

    الوجه الأوّل: خفاء تكليف القائم مِن آل محمّد (ع) بالنّسبة إلينا؛ فإنّ صحّة المُدّعى مبتنية على إحراز كون تكليف الإمام (ع) هو استحباب النّكاح.

    وبعبارة أخرى: ابتناء الدّعوى على إحراز أنّ حُكم الاستحباب متنجّز على الإمام (ع) ، ومِن ثمّ لا مجال لتصوّر عدم التزامه (ع) به بدعوى أنّه أولى مِن غيره باتيان المُستحبّ .

    إلاّ أنّ هذا خلاف التّحقيق، واستيفاء بيان ذلك يقع مِن جِهتين:

    الأُولى: في تعيين حُكم الزّواج بالنّسبة إلى الإمام الحُجّة (ع)

    فإنّ ثبوت كون الزّواج مُستحبّاً لا يكفي بحدِّه في تصحيح دعوى التّنجيز المذكورة، فلا بُدّ في مرتبة سابقة مِن إثبات كون الإمام (ع) موضوعاً للحُكم المذكور، وهذا مِمّا لا سبيل إليه؛ لأنّ احتمال كونه (ع) كذلك مُعارض بغيره بلا مُرجِّح؛ فكما أنّه يُحتمل كونه (ع) موضوعاً للاستحباب، فإنّه يُحتمل في عرضه أيضاً أنّه ليس كذلك، فالمصير إلى التّوقّف، ويُمكن تصوير المُعارض بأحد نحوين :

    النّحو الأوّل: أنْ يكون تكليفه (ع) غير الاستحباب على أساس العنوان الأوّلي

    فيكون (ع) بذلك موضوعاً لغير الاستحباب، وهو ليس بعزيز في حقّه (ع)؛ فقد ثبت في محلّه تفويض الأمر التّشريعي إليهم (ع)، وذلك بإناطة جعل الأحكام للنّبي الأكرم، والأئمّة (ع) بمقتضى ما دلّت عليه الأدلّة المُعتبرة القاضية بأنّ أمر الدّين والتّشريع والتّقنين الثّابت لله تبارك وتعالى قد فُوِّض إليهم، وذلك بوجوه وتقريبات لا يسع المقام لذكرها.

    وعليه: فلا محذور في أنْ يُقال أنّ الزّواج ليس مُستحباً في حقّه على سبيل العنوان الأوّلي.

    ولا بأس لرفع الاستيحاش الذي قد يعتري البعض مِن أصل اختصاصه (ع) ببعض الأحكام على سبيل العناوين الأوّليّة؛ أنْ نذكر شيئاً مِمّا ثبت في محلّه بخصوص ذلك.

    فقد جاء في الصّحيح عن أبي عبد الله (ع) : (دَمان في الإسلام حلال مِن الله عزّ وجل، لا يقضي فيهما أحد بحكم الله، حتّى يبعث الله (عزّ وجل) القائم من أهل البيت (ع)، فيحكم فيهما بحكم الله (عزّ وجل)، لا يريد على ذلك بيّنة: الزّاني المُحْصَن يرجمه، ومانع الزّكاة يضرب رقبته)[22].
    هذا، والرّوايات في أنّه (ع) يحكم بلا بيّنة كثيرة، وفيها أسانيد صحيحة.[23]

    ولا بأس بنقل كلمات نافعة في المقام للمُحقِّق السّيد الخوئي (قده) -على ما جاء في تقرير بحثه- ، يُستفاد منها تدريجيّة إظهار الأحكام على يد المعصومين (ع).

    قال (قده): (أمّا بناءً على ما سلكناه مِن تدريجيّة الأحكام، وجواز تأخير التّبليغ عن عصر التّشريع بايداع بيانه مِن النّبي إلى الإمام؛ ليظهره في ظرفه المُناسب له حسب المصالح الوقتيّة الباعثة على ذلك، بل قد يظهر من بعض النّصوص أنّ جُملة من الأحكام لم تُنشر لحدِّ الآن، وأنّها مودعة عند ولي العصر (عجّل الله تعالى فرجه)، وهو المأمور بتبليغها متى ما ظهر وملأ الأرض قِسطاً وعدلاً)[24].

    والحاصل: أنّه يُحتمل أنْ يكون تكليفه (ع) على سبيل العنوان الأوّلي هو اجتناب الزّواج، ولا يوجد أصل في البين ينفي هذا الاحتمال، واختصاصه بالتّكاليف ليس ببعيد كما عرفت.

    النّحو الثّاني: أنْ يكون تكليفه بغير الاستحباب على أساس العنوان الثّانوي

    فيكون (ع) بذلك موضوعاً لغير الاستحباب أيضاً، فإنّ مِن البديهيّات الفقهّية، والتي لا تخفى على مُبتدئي الدّراسات الدِّينيّة، بل وحتى غيرهم مِن عوام النّاس مِمّن له عناية بالفِقه: أنّ الأحكام الشّرعيّة تعرض عليها عناوين ثانويّة توجب تغيير الحُكم الشّرعي، وليس الزّواج استثناء مِن ذلك؛ إذْ لا دليل على كونه مُستثنى مِن هذه القاعدة، بل الدّليل على خلافه.

    ولذا قسّم العلاّمة الحلّي (قده) النّكاح بالنّسبة إلى طبيعة أحوال النّاس -بعد أنْ بيّن أنّ النّكاح مندوب مرغّب فيه- إلى: الوجوب والاستحباب وعدم الاستحباب[25].

    وقال الشّهيد الثّاني في (المسالك) : (واعلم أنّ النكاح إنّما يوصف بالاستحباب مع قطع النّظر عن العوارض اللاّحقة، وإلاّ فهو بواسطتها ينقسم إلى الأحكام الخمسة). [26]

    وقال صاحب (الجواهر) (قده) : (فاعلم أنّ النّكاح إنّما يوصف بالاستحباب مع قطع النّظر عن العوارض اللاّحقة، وإلاّ فهو بواسطتها تجري عليه الأحكام الأربعة الباقية).[27]

    وقال صاحب (العُروة الوُثقى) (قده) : (استحباب النّكاح إنّما هو بالنّظر إلى نفسه وطبيعته. وأمّا بالنّظر إلى الطوارئ فينقسم بانقسام الأحكام الخمسة).[28].

    أقول: ولم يعلّق أحد على هذا المقدار مِن كلامه (قده) مِن المُحشِّين على كتاب (العُروة الوُثقى) فيما رأيت مِن عشرات التّعليقات‏.

    والحاصل: أنّ التّمسك بثبوت استحبابيّة النّكاح لإثبات المُدّعى؛ تمسّك في غير محلّه؛ إذْ هو يبتني على إحراز -في مرتبة سابقة- ارتفاع العوارض بالنّسبة إليه (ع)، بما يوجب معه تنجّز حُكم الاستحباب في حقِّه، وهذا بمكانٍ مِن التّعذّر بالنّسبة إلينا.

     الوجه الثّاني: أنّه مع فرض تنجّز الحُكم الاستحبابي في حقِّه (ع)، إلاّ أنّ هذا غير موجب -في نفسه- في القطع بوقوع الزّواج، وتحقِّقه فعلاً؛ إذْ قد يكون ثمّة مانع تكويني يحول دون وقوعه، ولا أراني مُلزماً بذكر مصاديق للمانع مع إمكان تصوِّره في نفسه بنحو الإجمال.

    مُناقشة  الأمر الثّالث: حُكم الإنجاب بالنّسبة إلى الإمام الحُجّة (ع)

    ويقع الكلام مِن جِهات ثلاث:

    الجِهة الأولى: عدم احراز وجود الذّريّة لعدم تحقّق سببها

    وهذه الجِهة بناءً على ما تقرّر آنفاً مِن عدم إحراز وقوع زواجه (ع) أصلاً؛ إذْ على هذا التّقدير لا يُتصوّر وقوع الذّريّة، ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن علّته.

    فيتحصّل: أنّ الكلام في وقوع الذّرية لا تنتقل النّوبة إليه إلاّ بعد الفراغ مِن تنقيح دعوى إحراز وقوع سببها، وقد عرفت أنّ ذلك غير مُتاح بالنّسبة إلينا.

    الجِهة الثّانية: عدم تماميّة كُبرى إطّراد استحباب الذّريّة

    ويُمكن معالجتها بأحد أمرَيْن:

    الأوّل: قصور مَدرك الحُكم باستحباب الانجاب على سبيل الاطّراد، وبيان ذلك:

    أنّ عُمدة ما يُستدل به لإثبات استحباب انجاب الذّريّة وطلب الولد مِن الرّوايات، والتي يُمكن مُراجعتها في (أبواب أحكام الأولاد)، التي عقدها صاحب (الوسائل) (قده) في (كتاب النّكاح)[29]، ويضيق المقام لعرضها والتّعليق عليها، إنّما يثبت بها الاستحباب بلحاظ ما يترتّب على الذّريّة مِن آثار مطلوبة للشّارع الأقدس، ومع إحراز عدمها يرتفع الإستحباب، بداهة أنّ ثبوت الأحكام يدور مدار مِلاكاتها وجوداً وعدماً.

    وحينئذ: يُمكن أنْ يُقال أنّه في فرض انتفاء تلك الآثار في خصوص صاحب الزّمان؛ فإنّه لا معنى لتنجّز الحُكم عليه (ع) مِن هذه الجِهة، فيكون بالنّسبة إليه على سبيل السّالبة بانتفاء الموضوع، ومع انسداد باب الكشف عن ذلك؛ يكون ثبوت الاستحباب بالنّسبة إليه مشكوكاً.

     الثّاني: لو سلّمنا بثبوت الاستحباب الذّاتي للانجاب وطلب الذّريّة؛ فإنّ هذا لا يتنافى مع تغيّر الحُكم بطروء العناوين الثّانوية ولحوقها به بما يقتضي غير الاستحباب، بل وعلى سبيل العنوان الأوّلي أيضاً على وِزان ما ذكرناه فيما تقدَّم.

     مُناقشة الأمر الثّالث: الأصل في الخَلق وجود الذّريّة

    ويرد عليه: أنّ هذا الأصّل غير مُنقّح، بل التّحقيق على خلافه، وبيانه:

    أنّ الذّرية مِن الأمور الوجوديّة، والأصل في مِثلها العدم، ولا سبيل للخروج عنه إلاّ في فرض قيام الدّليل المُصحِّح له.

    وفي المقام: لا يوجد ما يوجب الخروج عن الأصل المذكور، غير الاحتمال المحض، وهو مُعارض بغيره.

    والتّمسك بكون الذّريّة معلولة للزّواج؛ لا يُجدي في شيء؛ لأنّه مبني على كون تحقّق الزّواج أو طلب الذّرية علّة تامّة لحصولها، وليس الأمر كذلك، لأنّ الزّواج، أو طلب الذّريّة ليس مِن هذا القبيل، بل هو مُسبِّب على سبيل الاقتضاء.

    وتقريبه: أنّ الإنجاب يتحقق على سبيل اجتماع المُقتضي وعدم المانع، والمُقتضي لطلب الذّريّة متوفّر وهو الزّواج أو توفير مقدِّمات حصول الذّريّة، إلاّ أنّ وجود الذّريّة منوطٌ بإحراز ارتفاع المانع، وهو غير مُحرز فيما نحن فيه.

    ويُمكن أنْ يُتصوَّر المانع بأحد وجهَيْن:

    الوجه الأوّل: المانع التّشريعي 

    وهو أنْ يكون تكليفه (ع) هو عدم الإنجاب، على النّحو الذي ذكرناه في استحباب الزّواج، وفي كُبرى استحباب إيجاد الذّريّة، إمّا على سبيل الحُكم الأوّلي أو الحُكم الثّانوي.

     الوجه الثّاني: المانع التّكويني

     وهو أنْ يكون ثمّة سبب تكويني يمتنع معه حصول الإنجاب، أو تأخّره، إمّا ابتداءً كأنْ لا تنعقد النّطفة مثلاً، أو بقاءً كأنْ لا تثبت النّطفة بعد الفراغ مِن انعقادها، والمانع التكويني على الجُملة هو نظير ما هو ثابت مِن سيرة بعض الأنبياء (ع)، كنبيّ الله إبراهيم (ع)، ونبيّ الله زكريا (ع)، مِمّا نطقت به آيات الذِّكر الحكيم، بل ونبيّنا الأعظم (ص) في سائر زوجاته اللاّتي لم يُنجبن منه (ص).

    وحينئذ: يرتفع محذور اجتناب الإمام (ع) طلب الولد والذّريّة مع دعوى كونه مُستحبّاً.

    وزبدة المخض: أنّ الدّليل الأوّل الذي اُستند إليه لإثبات وجود ذُريّة للإمام الحُجّة (روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه فداء)؛ غير تام.



للبحث تتمّة ،،،



[1]  قال (أحمد بن إسماعيل) في:
أ‌-       كتابه: (نصيحة إلى طلبة الحوزات العلمية وإلى كل من يطلب الحق)، ص28-29، الطّبعة الثّانية:1431هـ-2010م : (ولست في هذا المختصر أريد أن أناقش أخطاء من كتبوا في قضية الإمام الأنصار من طلبة الحوزة المهدية كفاية وهم متصدون إن شاء الله لبيان الحقيقة بالتفصيل. وأنصح هؤلاء الذين يكتبون حول قضية الإمام المهدي أن يقرأوا كتب الأنصار، ومنها  (الرد القاصم) و(الرد الحاسم)...).
ب‌-  كتابه: (وصي ورسول الإمام المهدي (ع) في التوراة والإنجيل والقرآن)، ص16، (الطّبعة الثّانية:1431هـ-2010م)، و(ص25 مِن النّسخة المشتملة على تعليقة الشّيخ صادق المحمّدي، الطّبعة الأولى: 1431هـ-2010م، مُرشداً أحد السّائلات: (راجعي الكتب الصادرة عن أنصار الإمام المهدي المبين ، والرد الحاسم ، والرد القاصم ، وبعض البيانات).
ج‌-    وكذا في كتابه الآخر: (الجواب المُنير عبر الأثير)، ج1 ص24، الطّبعة الثّانية:1431هـ-2010م.
[2]  هذا التّقسيم مِنّا.
[3]  الرّد الحاسم على منكري ذريّة القائم للشّيخ ناظم العقيلي ص7، الطّبعة الثّانية: 1433 هـ-2012م.
[4]  الرّد الحاسم على منكري ذريّة القائم للشّيخ ناظم العقيلي ص8، الطّبعة الثّانية: 1433 هـ-2012م.
[5]  الرّد الحاسم على منكري ذريّة القائم للشّيخ ناظم العقيلي ص21، الطّبعة الثّانية: 1433 هـ-2012م.
[6]  النّجم الثّاقب في أحوال الإمام الحُجّة الغائب (عج) للميرزا النّوري الطّبرسي (قده) ج2 ص68، ط. أنوار الهُدى، الطّبعة الأوْلى: 1415 هـ، إيران-قُم.
[7]  الرّد الحاسم على منكري ذريّة القائم للشّيخ ناظم العقيلي ص10، الطّبعة الثّانية: 1433 هـ-2012م.
[8]  تاريخ الغَيْبة الكُبرى (ضمن موسوعة الإمام المهدي (ع) ) للشّهيد السّيد محمد محمد صادق الصّدر (قده) ج2 ص64، ط. مؤسّسة العطّار الثّقافيّة / دار الزّهراء (س)، الطّبعة الأولى:1428هـ -2008م، إيران-قم.
[9]  تاريخ الغَيْبة الكُبرى (ضمن موسوعة الإمام المهدي (ع) ) للشّهيد السّيد محمد محمد صادق الصّدر (قده) ج2 ص62، ط. مؤسّسة العطّار الثّقافيّة / دار الزّهراء (س)، الطّبعة الأولى:1428هـ -2008م، إيران-قم.
[10]  الرّد الحاسم على منكري ذريّة القائم للشّيخ ناظم العقيلي ص7، الطّبعة الثّانية: 1433 هـ-2012م.
[12]  تهذيب الأحكام للشّيخ الطّوسي (قده) ج2 ب6 ص50 ح165 (كتاب: الصّلاة)، ط. دار الكتب الإسلاميّة، الطّبعة الرّابعة: 1365 هـ.ش، إيران-طهران.
[13]  موضع بالمدينة ووادي الصّفراء، راجع: مرآة العقول للعلاّمة المجلسي (قده) ج17 ص338، ط. دار الكتب الإسلاميّة، الطّبعة الأولى: 1406 هـ، إيران-طهران.
 [14] الكافي للشّيخ الكُليني (قده) ج4 ص369 ح3 (باب: المحصور والمصدود وما عليها من الكفارة)، ط. دار الكُتب الإسلاميّة، الطّبعة الثّالثة: 1367 هـ.ش، إيران-طهران.
[15]  ذكرى الشّيعة في أحكام الشّريعة للشّهيد الأوّل (قده) ج3 ص236، ط. مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التّراث، الطّبعة الأولى: 1416 هـ، إيران-قُم.
[16] حاشية الوحيد البهبهاني (قده) على مدارك الأحكام ج1 ص290، ط. مؤسّسة آل البيت (ع)، الطّبعة الأولى: 1419 هـ، إيران-قُم.
[17]  كتاب الحج للمُحقّق السّيد الدّاماد (قده) ج2 ص228، ط. مهر، الطّبعة الأولى: 1401 هـ، إيران-قُم.
[18]  كتاب الصّلاة للمُحقّق السّيد الدّاماد (قده) ج3 ص231، ط. مؤسّسة النّشر التّابعة لجامعة المُدرّسين بقُم المُقدّسة، الطّبعة الثّانية: 1416 هـ، إيران-قُم.
[19]  كتاب الحج تقرير بحث المُحقّق السّيد محمود الشّاهرودي (قده)، بقلم: المُحقّق الشيّخ محمد إبراهيم الجنّاتي (حفظه الله تعالى) ج2 ص382، ط. مؤسّسة أنصاريان، الطّبعة الأولى: 1402، إيران-قُم.
[20]  مُهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام للمُحقّق السّيد عبدالأعلى السبزواري (قده) ج13 ص94، ط. مؤسسة المنار، الطّبعة الرّابعة: 1413 هـ، إيران-قُم.
[21]  تهذيب مناسك الحجّ للمُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ج2 ص165، ط. دار التّفسير، الطّبعة الأولى: 1423 هـ، إيران-قُم.
[22]  كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق (قده) ب58 ص671  ح21 ، ط. مؤسّسة النّشر التّابعة لجامعة المُدرّسين بقُم المُقدّسة، 1405 هـ، إيران-قُم.
[23]  لاحظ مثلاً: بصائر الدّرجات للشّيخ محمد بن الحسن الصّفار القُمّي (قده) ج6 ص 279 ح3 و ح4، ط. الأعلمي، 1404 هـ، إيران-طهران، والكافي للشّيخ الكليني ج1 ص397 ح1، ط. دار الكُتب الإسلاميّة، الطّبعة الثّالثة: 1367 هـ.ش، إيران-طهران.
[24]  مُستند العُروة الوُثقى (كتاب الخُمس)، ضمن: (موسوعة الإمام الخوئي (قده))، تقرير بحث المُحقِّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم الشّيخ مرتضى البروجردي ج25 ص197، ط. مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قده)، الطّبعة الثّانية: 1426 هـ، إيران-قُم.
[25]  تحرير الأحكام الشّرعيّة على مذهب الإماميّة للعلاّمة الحلّي (قده) ج3 ص415-416، ط. مؤسّسة الإمام الصّادق (ع)، إيران-قُم، الطّبعة الأولى: 1420 هـ.
[26]  مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام للشّهيد الثّاني (قده) ج7 ص15، ط. مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران-قُم، الطّبعة الأولى: 1413 هـ.
[27]  جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام للمُحقّق الشّيخ النّجفي (قده) ج29 ص33، ط. دار الكتب الإسلاميّة، إيران-قُم، الطّبعة الثّانيّة: 1366 هـ.ش.
[28]  العُروة الوثقى للمُحقّق السّيد اليزيدي (قده) ج5 ص476، ط. مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجامعة المُدّرسين بقم المُشرّفة، إيران-قُم، الطّبعة الأولى: 1420 هـ.
[29]  وسائل الشّيعة للشّيح الحُر العاملي (قده) ج21 ص355 وما بعدها، ط. مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التّراث، إيران-قُم، الطّبعة الثّانية: 1414 هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق