الأربعاء، 16 يوليو 2014

الانتصار لزعيم طائفة الأبرار (4)

في

|مسألة سهو النّبي (ص) المُختار|

الرّد على الشّبة التي أثارها (الغزي) و(فضل الله) و(الحيدري) وبعض (أهل السنة)

حول رأي المحقق السيد الخوئي (قده) في مسألة سهو النّبي (ص)

(مع قراءة نقديّة ومناقشات علميّة لأبرز الرّدود)

بقلم: الشّيخ جابر جوير

~الحلقة الرّابعة: تتمّة الجواب الأوّل عن الإشكال ~  

 *****************************




   

     النّقطة الثّانية: في تقريب رأي المُحقّق السّيد الخوئي (قده) على تقدير تماميّة مفهوم الحصر، وخروج الموضوعات الخارجيّة عن دائرة السّهو الممنوع المقطوع به (القدر المُتيقّن).
     اتّضح ممّا تقدّم أنّه بناءً على مسلك المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، تنتفي المُلازمة التي هي أساسٌ يتقوّم به الإشكال المُثار، ولكن يبقى الكلام عن كشف رأيه (قده) في المسألة، لو فرضنا تماميّة دلالة المقام على (المفهوم) مِمّا يورث انحصار عنوان (القدر المُتيقّن) بـ(غير الموضوعات الخارجيّة)، بما يستلزم -ضرورة- الالتزام بكون المسألة دون مرتبة اليقين؛ فهي على هذا التّقدير لا يخلو حالها مِن أحد أمور ثلاثة:

الأوّل: كونها ثابتة لا على وجه اليقين (كالظّن الخاص (=المُعتبر) ).

الثّاني: كونها غير ثابتة.

الثّالث: كونها مُتَوقّفاًً فيها.

      ورُبما أمكننا مِن خلال إعادة قراءة تراث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، وإعادة تفكيك خِطابه الفِقهي، لاستحضار المُرتكزات والبُنى البحثيّة التي صنعته، ومِن ثمَّ استجلاء رأيه في المسألة بما ينسجم مع مقدار الالتزام المُتقدّم.
     فإنّه رُبما يُمكن أنْ يُقال: أنّ المُتعيّن في المسألة عنده (قده) هو الثّبوت على نحو الظّن الخاصّ (المُعتبر)، بعد أنْ كانت مِن قبيل اليقينيّات، وليس هذا بعزيز على ما يقتضيه واقع التّجربة العِلْميّة الاجتهاديّة مِن تغيّر الرأي، وتقريب ذلك:
     أنّ آخر[1] إفادة له (قده) بهذا الشّأن[2] ردّ فيها رواية موثّقة السّند واردة في سهو النّبي (ص)، وحَمَلَها على التّقيّة؛ لكونها مُعارَضة بما ورد في أخبار أخرى، قال -على ما جاء في تقرير بحثه- : (موثّقة زيد بن علي الواردة في سهو النّبي (ص) في صلاة الظّهر والاتيان بها خمس ركعات وفيها: ( . . فاستقبل القِبلة، وكبّر وهو جالس، ثمّ سجد سجدتين...
     وفيه:
    أولاً: معارضتها بما ورد في غير واحد مِن الأخبار مِن تكذيب نسبة السّهو إلى النّبي (ص)، وأنّه لم يسهُ في صِلاته قَطْ، ولم يسجد سجدتي السّهو قَطْ، فهي محمولة على التّقية لا محالة).[3]

     فإنّه رُبما يُمكننا أنْ نستظهر مِن هذا المقدار الذي استند إليه في ردّ الخبر، على كون المسألة ثابتة لديه على سبيل الظّن المُعتبر؛ إذْ ظاهر إفادته أنّه (قده) استند إلى المُعارضة بالأخبار بمجرّدها، ولم يتمسّك بأزيد منها كالدّليل العقلي، أو غير ذلك، بضميمة أنّه لم يُعبّر عن هذه الأخبار إلاّ بـ( غير واحد مِن الأخبار)، والقدر المُتيقّن مِن هذا التّعبير هو خصوص: كونها مظنونة على سبيل الظّن الخاص (المُعتبر) لترتقي إلى مستوى المُعارضة؛ لأنّه (قده) لم يُبيّن حالها، فأقلّ ما يُقال فيها أنّها مظنونة الصّدور على سبيل الظّن الخاص.
    بل الذي يظهر بالمُتابعة: أنّ ما عبّر عنه (قده) بغير واحد مِن الأخبار اشتمل على تكذيب نسبة السّهو إلى النّبي (ص)، وأنّه لم يسهُ في صِلاته قَطْ، ولم يسجد سجدتي السّهو قَطْ؛ ليس هو إلاّ خبر واحد فقط، وهو خبر زُرارة (رض)، قال: سألت أبا جعفر (ع) : (هل سجد رسول الله (ص) سَجْدَتي السّهو قط؟ فقال: لا، ولا يسجدهما فقيه)[4].
     وهو خَبرٌ واحد قيمته العِلميّة بحسب الاصطلاح: (مُوثّق) عند المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، حيث عبّر عنه -على ما جاء في تقرير بعض أبحاثه الأخرى- بـ: (موثّقة زُرارة)[5].

     ويؤيّد ذلك: أنّه (قده) تصرّف في جِهة الصّدور؛ فحمل أحد المُتنافيين على التّقية، وهذا كاشف إنّي عن كون المُتنافيان مُتكافئين (في قوّة بعضهما البعض) بمستوى يُصَحَّح معه عروض عنوان التّعارض المُستقِر، ولمّا كان أحدهما رواية واحدة موثّقة؛ كشف ذلك عن كون المُقابل المُنافي بقوّتها مِن جهة الصّدور؛ فيكون آحاداً، وما كان كذلك؛ فإنّه مظنون بلا شك.
     وإنْ كان رُبما يوهن هذا المُؤيّد: أنّ طريقته (قده) -كما لا يكاد يخفى على المُراجع المُطّلع على آثاره- إجراء الحمل على التّقيّة في الأعم مِن شمول أدلة الحجيّة لكل مِن المُتعارضين في نفسه، وكون أحدهما ليس كذلك، كما لو كان أحدهما مُخالفاً للدّليل العقلي، وإلاّ فإنّ صحّة الاستظهار الذي قدّمناه مُبتنية على كون التّعارض في المقام مِن قبيل تعارض الحجّة مع الحجّة، لا تعارض الحجّة مع اللاّ حجة، كما لو افترضنا أنّ الأخبار الأخرى التي تنفي السّهو قطعيّة الصّدور بفرض أنّها محفوفة بالقرينة القطعيّة، فتأمّل.
     فإنْ تم ما تقدّم، مع فرض التزامنا بأنّه (قده) لم يكن في مقام التّفنّن في المُمارسة الاستدلاليّة، بحيث عَمَد إلى الاكتفاء بوجهٍ في المُعالجة البحثيّة دون سائر الوجوه التي قد تكون تامّة في نظره الشّريف؛ فإنّه يُمكن حينئذ: أنْ ندّعي أنّه (قده) يرى ثبوت مسألة نفي سهو النّبي (ص) في الصّلاة على سبيل الظّن المُعتبر.

     النّتيجة:
     ويتّضح بذلك أنّنا حتى لو التزمنا بانعقاد مفهوم الحصر الذي يُفيد قصور (القدر المُتيقَّن) عن شمول غير الموضوعات الخارجيّة؛ فإنّ هذه الأخير -أي الموضوعات الخارجيّة- ثابتة على نحو الظّن المُعتبر، خصوصاً أنّ المسألة مِن قبيل المسائل التي يُكتفى فيها بهذا النّحو مِن أنحاء الثّبوت، أعني الظّن المُعتبر (الخاص).

     مُعالجة بعض الحيثيّات المُتمِّمة للمطلوب:
     نعم تبقى جُملة مِن الحيثيّات التي تتوقّف صحّة المطلوب على مُعالجتها، ونذكرها مصحوبة بالمُعالجة والتّتميم.

     الحيثيّة الأوّلى:
     حاصلها: أنّ الأخبار المذكورة غاية ما تفيده نفي السّهو في الصّلاة، وهو أخصّ مِن المُدّعى، فيكون السّهو في سائر الموضوعات الخارجيّة مُمكناً.
     والجواب: يُمكن أنْ يُدفع هذا الإشكال بأحد وجهين:
     الأوّل: إمكاناً
     أنّه لم يثبت عندنا رأيه في شيء مِن ذلك، وعليه: الإثبات والنّفي لا يتعدّى كونه ضرباً مِن التّخرّص، على أنّه يُمكن أنْ يُقال: أنّ طُرق الإثبات لديه (قده) متوفّرة في المقام كما لو احتملنا التزامه (قده) بإلغاء الخصوصيّة مثلاً، فتأمّل.
     الثّاني: وقوعاً
     فإنّ الثّابت مِن تقريرات بحثه (قده) المُتأخِّرة عن هذا المَوْرِد أنّه يرى ثبوت ذلك في سائر الموضوعات الخارجيّة.
     حيث جاء في تقريرات (كتاب الحج) -وهي متأخّرة عن (كتاب الصّلاة) - تعليقاً على بعض الرّوايات: ( نعم هنا إشكال آخر، وهو: منافاة الإتيان بالشّوط الثّامن سهواً؛ لعِصمة الإمام (ع) حتّى في الأمور الخارجيّة، وذلك منافٍ لمذهب الشّيعة، فيمكن إخراج هذه الرّواية مخرج التّقية في إسناد السّهو إلى أمير المؤمنين (ع)، ومثل ذلك غير عزيز في الأخبار)[6].
     أقول: وهو ظاهر في أنّه يلتزم بسعة مسألة امتناع السّهو لسائر الموضوعات الخارجيّة وامتدادها لتشمل الأعم مِن الصّلاة وغيرها، فيثبت المطلوب، وينسدّ باب الإشكال.

     الحيثيّة الثّانية:
     قد يُتوهّم: أنّ التّعبير بـ(مذهب الشّيعة) قادح بما ذكرناه مِن كون نفي السّهو في الصّلاة ثابت بالظّن المُعتبر (الخاص).
     إلاّ أنّه مدفوع: بأنّه لا تنافي بين الالتزام بأنّ مسألة نفي السّهو في الصّلاة كذلك مع كونها ثابتة عنده (قده) بنحو الظّن الخاص (المُعتبر)، بعد كون الظّاهر مِن قوله (قده) : (مذهب الشّيعة)؛ هو إمّا المشهور بينهم أو المُتسالم عندهم.
     ولذا جاء في بعض تقارير بحثه (قده) تعليقٌ له على الأخبار المُتضمّنة لسهو النّبي (ص) في الصّلاة: (لكنّها مُضافاً إلى ضَعفِ سندها، وإلى اشتمالها على ما لا يُعوّل به مُعظم الشّيعة من تجويز السّهو على النّبي (ص) )[7].
     هذا، وقد اعتبر تلميذه المُحقِّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) مسألة نفي السّهو في الموضوعات الخارجيّة مِن: (المُتسالم) تارة، و(المشهور) أُخرى.[8]
     وكيفما كان؛ فإنّه لو تمّ ما ذكرناه آنفاً؛ يتّضح أنّ المسألة عنده (قده) ثابتة -لا أَقَلْ في الجُملة- على سبيل الظّن المُعتبر، فتأمّل.

     الحيثيّة الثّالثة:
     جاء في بعض تعبيراته (قده) في موارد أخرى مِن أبحاثه العالية؛ مِن منافاة مقولة (السّهو في الموضوعات الخارجيّة) لأُصول المذهب ونحو ذلك، فلا يجتمع كونها أصلاً مِن أُصول المذهب، مع كونها مظنونة.

     إلاّ أنّه تُمكن المُعالجة: بأنّه (قده) لم يُصرّح بأنّ هذه المسألة (نفي السّهو في الموضوعات الخارجيّة) مِن أُصول المذهب، بل جعل مُخالفتها مُخالفة لأُصول المذهب، وهذا أعم مِن المُدّعى، توضيح ذلك:
     أنّ (أُصول المذهب) تُطلق في مِثل المقام ويُراد منها أحد أمرين:

     الأوّل: الأُصول بالمعنى الأخص، وهي: خصوص أُصول العقائد، المُعبّر عنها بـ(أُصول المعارف)، وهي الأُصول الخَمسة: التّوحيد، والعَدل، والنّبوة، والإمامة، والمعاد.

     الثّاني: الأُصول بالمعنى الأعم، وهي الأعم مِن أُصول العقائد وفروعها، أو ما يُعبّر عنه بـ(أُصول المعارف وفروعها)، وهو: كل ما يصدق عليه عنوان (العَقيدة) بصورة عامّة، والتّعبير عنها بالأُصول في مقابل الفقه (الفُروع).

     ومِن الواضِح: أنّ المسألة ليست من أُصول المذهب بالمعنى الأوّل، فليست هي أصل برأسها، ولا يقول أحدٌ بذلك، وإنّما هي مِن جُملة الفُروع الاعتقاديّة، ولا إشكال في أنّ جُملة منها ثابتة على سبيل القطع، وأخرى على سبيل الظّن الخاصّ.

     وبناء على ذلك: يكون مُراده (قده) مِن المُخالفة لأُصول المذهب يدور بين أحد أمور ثلاثة:
    الأوّل: أنّها تُخالف مسألة (امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة)، التي هي بنفسها أصل بالمعنى الأعم.

     الثّاني: أنّها تُخالف (العصمة)؛ بداهة أنّ مسألة (امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة) مُندرجة تحتها، وبلحاظ أنّ العصمة مِن الأُصول بالمعنى الأعم.

    الثّالث: أنّها تُخالف عقيدة (النّبوة) أو (الإمامة)، وكل منهما أصل من الأصول بالمعنى الأخصّ.
      ويُمكن على التّقدير الأوّل تصّور ظنيّة المسألة، وتقريب ذلك: أنّ مسألة (امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة) إمّا أنْ تكون ثابتة على سبيل اليقين أو الظّن الخاص، وترجيحها على ما ورد في الأخبار المُتدافعة المُتضمّنة لوقوع السّهو؛ مِن جهة موافقة العامّة، لا مِن جِهة كون الأُولى مقطوعة فيما لو كانت ثابتة بالدّليل العقلي مثلاً، بخلاف الثّانية المظنونة (المُثْبِتة للسّهو).
     نعم، بالنّسبة للأمر الثّاني، والثّالث؛ لا يخفى أنّ الحُكم بالبُطلان فَرعُ ثُبوت المُلازمة بين (السّهو في الموضوعات الخارجيّة) وانتفاء مبدأ العِصْمة، أو النّبوة، أو الإِمامة، وهذا راجع إلى كون المقصود بالعِصْمة شِقِّها غير العَمْدي، وكون المُستند دليلاً عقليّاً بُرهانيّاً بما يُفضي إلى القطع بامتناع السّهو.
     نعم، لعلّ يشهد أنّ مُراده بأصول المذهب هو: المعنى الثّاني والثّالث؛ ما يظهر مِن بعض كلِماته أنّ مُتعلّق المُخالفة هو العِصمة والنّبوّة، فقد جاء في بعض تقارير بحثه (قده)، أنّه قال: (أنّ النّوم من غَلَبة الله، وليس هو كالسّهو والنّسيان المنافيين لمقام العِصمة والنّبوة).[9]
     إلاّ أنّ هذا المقدار لا يجعل مُراده مُطّرداً في جميع الموارد، فتأمّل.
      وكيفما كان؛ فإنّ التّعبير بالمُخالفة لأُصول المذهب، وقع في مواضِع مُتقدِّمة مِن إفاداته، تتأخّر عنها الإفادة التي احتملنا فيها إمكانيّة استظهار ثبوت المسألة على سبيل الظّن المُعتبر، والعدول في نظائر المقام بمكان مِن الإمكان.

     الحيثيّة الرّابعة:
     أنّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) صرّح في بعض كلماته أنّ الدّليل العقلي مِن مَدارِك المسألة، ومِن ثمّ يُمكن أنْ يُقال: أنّ اجتماع ذلك مع كون المسألة ثابتة بنحو الظنّ؛ مُتعذّر.

     والجواب: أنّ الدّليل العقلي الذي أومأ إليه في بعض كلماته، في أثناء مرحلة مِن مراحل مسيرة عطائه العِلمي؛ فإنّه وإنْ كان لا يُتصوّر فيه إلاّ ما كان مقطوعاً؛ إلاّ أنّ متعلّق القطع هو نتيجة الدّليل العقلي، والنّتيجة تابعة لمقدِّماتها، والخطأ في مُقدّمات البرهان بمكان مِن الورود، فلعلّه (قده) توصّل إلى عدم تماميّة هذا الضّرب من الأدلّة في موضوع البحث، بحيث انتهى إلى أنّ المورد غير مشمول بهذا الدّليل، خصوصاً أنّ المَوْرِد الذي ركن فيه إلى الدّليل العقلي مُتقدِّم على مَورِد استظهارنا.
     ورُبما يُستقرب ما ذكرناه بالنّظّر إلى بعض كلماته في غير هذا المَوْرِد، فإنّ له (قده) كلاماً في الأخبار الواردة في أنّ النّبي (ص) رَقَد، فغلبته عيناه، فلم يستيقظ إلاّ بعد ما طلعت الشّمس، وركع ركعتين، ثم قام، فصلّى بهم الصّبح، فإنّه قال (قده) : ( ولكن هذه الرّوايات لا يسعنا أنْ نصدّقها في مضامينها، وإنْ كان بعضها صحيحاً من حيث السّند، ولم يظهر لنا الوجه في صدورها عنهم (ع)؛ لمخالفتها أصول المذهب، ودلالتها على القدح في مقامه وعصمته (ص)، كيف وهو أرقي من أنْ يغلبه النّوم ويمنعه عن القيام بما أمره به ربه... وربما وجّهها بعضهم: بأنّ تلك الرّوايات غير منافية لمقام النّبي (ص) وعصمته؛ لجواز أنْ يُقال: إنّ غلبة النّوم، واستيلائه على النّبي (ص) إنّما كانت بمشيئة الله وإرادته؛ مراعاة للمصلحة النّوعية العامّة وهي التّوسعة والتّسهيل على أمّته؛ لأنّه (ص) إذا كان بحيث يغلبه النّوم، وتفوت به فريضته؛ لم تكن غلبته وفوتها عن سائر المُكلّفين موجباً للمُعاتبة والتّشنيع والذّم، ولا سيّما إذا صدر عن الأعاظم، والوُجهاء، وذوي المقامات العالية لدى النّاس ، - مثلاً - إذا غلب النّوم على أحد الحُكّام والقُضاة، أو فاتت الفريضة عن أحد مراجع الفتوى - كثّر الله أمثالهم - لم يكن ذلك موجباّ لتعييره بملاحظة أنّه أمرٌ ابتلى به النّبي (ص) فكيف بغيره ممن لا عصمة له، وهذا بخلاف ما إذا لم يُبتل به النّبي (ص)؛ لأنّ صدوره من غيره يستتبع الملامة والسّقوط عن الأنظار لا محالة، وهذا الوجه، وإنْ كان قريباً في نفسه، ولا مانع من الالتزام بتحققه عن النّبي الأكرم (ص) إذا اقتضت المصلحة العامّة مثله، إلاّ أنّ في تلك الرّوايات قرينة على أنّ غلبة النّوم لم يكن من الله سبحانه لأجل المصلحة، وإنّما كانت مُستندة إلى الشّيطان... كما أنّ فيها قرينة أخرى على أنّ غلبة النّوم لم تكن ناشئة عن المصلحة النوعية ، لأنّ المستفاد منها أنّه (ص) تأثّر بغلبة النّوم، وفوات الفريضة عنه، حتى كره المقام في ذلك المكان، فلو كانت الغلبة بمشيئة الله رعاية للمصلحة لم يكن لتأثره (ص) لى الله بها وجه أبداً)[10].
     أقول: وتطبيق ذلك على ما نحن فيه لا يكاد يخفى؛ وهذا التّقريب في كُبراه بنحو رُكْنَي نظريّة (الإسهاء) التي جنح إليها الشّيخ الصّدوق (قده) في مسألة (السّهو)، حيث قال (قده): (وليس سهو النّبي (ص) كسهوِنا؛ لأنّ سهوه مِن الله (عزّ وجلّ)، وإنّما أسهاه؛ ليُعلم أنّه بشر مخلوق؛ فلا يُتخذ رباً معبوداً دونه، وليعلم النّاس بسهوه حكم السّهو متى سهوا، وسهونا مِن الشّيطان، وليس للشّيطان على النّبي (ص) والأئمّة (صلوات الله عليهم) سُلطان، (إنّما سُلطانه على الذين يتولّونه، والذين هم به مُشركون)[11]).

     أقول: وأنت ترى أنّ نظرية الشّيخ الصّدوق في (الإسهاء) ترتكز على مِلاكَيْن:
     الأوّل: كون السّهو مِن الله تبارك وتعالى.
     الثّاني: كونه راجع إلى مصلحة نوعيّة.
     وهذان هما نفس المِلاكَيْن المذكورين آنفاً في كلمات المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، وإنْ كان ثمّة افتراق وتمايز في بعض التّفاصيل في خصوص طبيعة المصلحة النّوعيّة، وهما يُشكّلان مُقتضى لقبول الدّعوى، لولا المانع الموجود في خصوص مَوْرِد نوم النّبي (ص)، ولمّا كان هذا المانع مُرتفعاً عن مورد (السّهو)؛ فيُمكن أنْ يُقال -حينئذ- : أنّ الدّليل العقلي غير تام في مانعيّته فيما نحن فيه، ولكن نظراً لوجود المانع السّمعي (النّقلي)؛ كان الالتزام بالإسهاء مُمتنعاً.
     نعم، جاء ردّ المُحقّق السّيد الخوئي (قده) لأخبار (السّهو) في الجُزأين: (السّادس)، و(الرّابع) مِن نفس تقريرات بحثه، والكلام الذي مرّ بك آنفاً مذكور في الجُزء: (الأوّل) مِن التّقريرات، مِمّا يكشف عن كونه (قده) لا يرى التّقريب المذكور في مورد نوم النّبي (ص) مُطّرِداً بحيث تتّسع دائرته لتشمل مورد سهو النّبي (ص).
     بل وأفاد صريحاً في بعض مُعالجاته لروايات نوم النّبي (ص) بأنّ السّهو والنّسيان ليسا كالنّوم مِن جهة كون الأخير بفعله سبحانه، قال (قده) -على ما جاء في بعض تقارير بحثه- : (فإنّا تارة نبني على عدم العمل بالنّصوص المذكورة، وإنْ صحّت أسانيدها؛ لمنافاتها لمقام النّبوة سيّما مع ملاحظة ما ورد في الأخبار في شأنه (ص) مِن أنّه كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، فكيف يُمكن أنْ ينام عن فريضة الفجر؟ فلا محالة ينبغي حملها على التّقية، أو على محمل آخر، وأخرى: نبني على العمل بها، بدعوى: أنّ النّوم من غَلَبة الله، وليس هو كالسّهو والنّسيان المنافيين لقام العِصمة والنّبوة، ولا سيّما بعد ملاحظة التّعليل الوارد في بعض هذه النّصوص؛ مِن أنّ ذلك إنّما كان بِفعل الله سبحانه رحمة على العباد؛ كي لا يشقّ على المُؤمِن لو نام اتفاقاً عن صلاة الفجر).[12]
     إلاّ أنّه رُبما يُمكن أنْ يُقال: أنّه (قده) كان يرى في (كتاب الطّهارة) عدم انطباق ما ذكره على مسألة سّهو النّبي (ص)؛ لكونها ليست بتلك المثابة التي عليها مسألة نوم النّبي (ص)، إلاّ أنّه تراجع عن رأيه السّابق، فاستقرّ على وِحدة المَوْرِدَين مِن هذه الجِهة، وعلى ذلك: يكون البُرهان العقلي غير تام بالنّسبة إلى امتناع السّهو في الموضوعات الخارجيّة.

     والمتحصّل: أنّ المسألة يُمكن -لو تمّ ما ذكرناه- أنْ يُدّعى أنّها ثابته عنده على نحو الظّنّ الخاص (المُعتبر).

     وكيفما كان؛ فإنّه على جميع التّقادير: لم يثبت أنّ المُحقّق السيّد الخوئي (قده) لا يرى امتناع سهو المعصوم في الموضوعات الخارجيّة، وهو المطلوب.



    الوجه الثّاني: أنّ الإشكال يستبطن إغفال احتمال ثالث في غير المُتيقَن -تمّت الإشارة إليه فيما تقدَّم-، وهو: كونه مُتَوَقّفاً فيه، والتّوقف شيء آخر غير النّفي والإثبات، وهو مِمّا ينطبق عليه عنوان (غير المُتيقَّن)، وصاحبه بمنأى عن المؤاخذة كما لا يخفى، لا سيّما أنّه ليس مِن مُتفرّدات المُحقّق السّيد الخوئي (قده) -لو صحّ هذا الاحتمال- ، فإنّه نظير ما أُستظهر مِن بعض مواضع إفادات العلاّمة المجلسي (قده) في (البحار) حول هذه المسألة[13].





للبحث تتمّة ،،،



[1] الإفادات السّابقة عليها ذكرناها في موضعها مِن هذا البحث، ويُستفاد منها -على الأقل- في الجُملة : أنّ المسألة كانت مُتيقّنه عنده (قده)، راجعها في: (الأمر الثّاني: تطبيق الاتجاهات في المقام)، بعنوان: (مُحاولة الكشف عن رأي المُحقّق السّيد الخوئي (قده) بناءً على ما تقدّم).
[2]  وذلك لأنّها جاءت في آخر (كتاب الصّلاة) مِن مُستند العُروة الوثقى، فراجع.
[3]  مُستند العُروة الوثقى (كتاب الصّلاة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: الشّيخ مرتضى البروجردي ج6 ص383.
[4]  وسائل الشيّيعة للشّيح الحُر العاملي (قده) ج8 ب3 ص 202 ح 10426/13، مِن أبواب الخلل الواقع في الصّلاة، ط. مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التُّراث، قم-إيران، الطّبعة الثّانية: 1414 هـ.
[5]  مُستند العُروة الوثقى (كتاب الصّلاة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: الشّيخ مرتضى البروجردي ج6 ص383، ط. منشورات دار العِلم، قُم-إيران، الطّبعة الأُولى: 1364 هـ.ش.
[6]  المُعتمد في شرح المناسك، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: السّيد رضا الخلخالي ج4 ص377 ، ط. منشورات دار العِلم، قُم-إيران، الطّبعة الأُولى: 1409 هـ.
[7]  المُستند في شرح العُروة الوُثقى (كتاب الصّلاة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق الميرزا علي الغروي (قده) ج15 ص229، ضِمن: موسوعة الإمام الخوئي (قده) في شرح العُروة الوُثقى، ط. مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قده)، قم-إيران، الطّبعة الثّانية: 1426 هـ.
[8]  صِراط النّجاة في أجوبة الاستفتاءات للمُحقّق الميرزا جواد التّبريزي (قده) ج5 ص287، ط. دار الصّديقة الشّهيدة (ع)، قم-إيران، الطّبعة الأولى: 1427 هـ.
[9]  التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى (كتاب الصّلاة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق الميرزا علي الغروي (قده) ج5 ق1 ص197-198.
[10]  التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى (كتاب الصّلاة) ، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق الميرزا علي الغروي (قده) ج1 ص500-501.
[11]  من لا يحضره الفقيه للشّيخ الصّدوق (قده) ج1 ص360.
[12]  التّنقيح في شرح العُروة الوُثقى (كتاب الصّلاة)، تقرير بحث المُحقّق السّيد الخوئي (قده)، بقلم: المُحقّق الميرزا علي الغروي (قده) ج5 ق1 ص197-198.

[13]  بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (قده) ج17 ص118، و ج25 ص351، ط. دار إحياء التّراث العربي، بيروت-لبنان، الطّبعة الثّالثة: 1403 هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق